فصل: بيان الدواء الذي يستجلب حال الخوف

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إحياء علوم الدين **


بيان فضيلة الخوف والترغيب فيه

أما الاعتبار فسبيله أن فضيلة الشيء بقدر غنائه في الإفضاء إلى سعادة لقاء الله تعالى في الآخرة إذ لا مقصود سوى السعادة ولا سعادة للعبد إلا في لقاء مولاه والقرب منه فكل ما أعان عليه فله فضيلة وفضيلته بقدر غايته وقد ظهر أنه لا وصول إلى سعادة لقاء الله في الآخرة إلا بتحصيل محبته والأنس به في الدنيا ولا تحصل المحبة إلا بالمعرفة ولا تحصل المعرفة إلا بدوام الفكر ولا يحصل الأنس إلا بالمحبة ودوام الذكر ولا تتيسر المواظبة على الذكر والفكر إلا بانقطاع حب الدنيا من القلب ولا ينقطع ذلك إلا بترك لذات الدنيا وشهواتها ولا يمكن ترك المشتهيات إلا بقمع الشهوات ولا تنقمع الشهوة بشيء كما تنقمع بنار الخوف فالخوف هو النار المحرقة للشهوات فإن فضيلته بقدر ما يحرق من الشهوات وبقدر ما يكف عن المعاصي ويحث على الطاعات ويختلف ذلك باختلاف درجات الخوف كما سبق وكيف لا يكون الخوف ذا فضيلة وبه تحصل العفة والورع والتقوى والمجاهدة وهي الأعمال الفاضلة المحمودة التي تقرب إلى الله زلفى‏.‏

وأما بطريق الاقتباس من الآيات والأخبار فما ورد في فضيلة الخوف خارج عن الحصر وناهيك دلالة على فضيلته جمع الله تعالى للخائفين الهدى والرحمة والعلم والرضوان وهي مجامع مقامات أهل الجنان وقال الله تعالى‏:‏ ‏"‏ وهدى ورحمة للذين يرهبون ‏"‏ وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ إنما يخشى الله من عباده العلماء ‏"‏ وصفهم بالعلم لخشيتهم‏.‏

وقال عز وجل‏:‏ ‏"‏ رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشي ربه ‏"‏ وكل ما دل على فضيلة العلم دل على فضيلة الخوف لأن الخوف ثمرة العلم ولذلك جاء في خبر موسى عليه أفضل الصلاة والسلام‏:‏ وأما الخائفون فإن لهم الرفيق الأعلى لا يشاركون فيه فانظر كيف أفردهم بمرافقة الرفيق الأعلى وذلك لأنهم العلماء والعلماء لهم رتبة مرافقة الأنبياء لأنهم ورثة الأنبياء ومرافقة الرفيق الأعلى للأنبياء ومن يلحق بهم ولذلك لما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرض موته بين البقاء في الدنيا وبين القدوم على الله تعالى كان يقول‏:‏ أسألك الرفيق الأعلى ‏"‏ فإذن إن نظر إلى مثمره فهو العلم وإن نظر إلى ثمرته فالورع والتقوى ولا يخفى ما ورد في فضائلهما حتى إن العاقب صارت موسومة بالتقوى مخصوصة بها كما صار الحمد مخصوصاً بالله تعالى والصلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يقال‏:‏ الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين والصلاة على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وآله أجمعين وقد خصص الله تعالى التقوى بالإضافة إلى نفسه فقال تعالى‏:‏ ‏"‏ لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم ‏"‏ وإنما التقوى عبارة عن كف بمقتضى الخوف - كما سبق - ولذلك قال تعالى ‏"‏ إن أكرمكم عن الله أتقاكم ‏"‏ ولذلك أوصى الله تعالى الأولين والآخرين بالتقوى فقال تعالى‏:‏ ‏"‏ ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله ‏"‏ وقال عز وجل‏:‏ ‏"‏ وخافونِ إن كنتم مؤمنين ‏"‏ فأمر بالخوف وأوجبه وشرطه في الإيمان فلذلك لا يتصور أن ينفك مؤمن عن خوف وإن ضعف ويكون ضعف خوفه بحسب ضعف معرفته وإيمانه وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في فضيلة التقوى ‏"‏ وإذا جمع الله الأولين والآخرين لميقات يوم معلوم فإذا هم بصوت يسمع أدناهم كما يسمع أدناهم فيقول‏:‏ يا أيها الناس إني قد أنصت لكم منذ خلقتكم إلى يومكم هذا فانصتوا إلي اليوم إنما أعمالكم ترد عليكم أيها الناس‏:‏ إني قد جعلت نسباً وجعلتم نسباً فوضعتم نسبي ورفعتم نسبكم قلت ‏"‏ إن أكرمكم عند الله أتقاكم ‏"‏ وأبيتم إلا أن تقولوا فلان بن فلان وفلان أغنى من فلان فاليوم أضع نسبكم وأرفع نسبي أين المتقون فيرفع للقوم لواء فيتبع القوم لواءهم إلى منازلهم فيدخلون الجنة بغير حساب ‏"‏‏.‏

وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ رأس الحكمة مخافة الله ‏"‏‏.‏

وقال عليه الصلاة والسلام لابن مسعود‏:‏ ‏"‏ إن أردت أن تلقاني فأكثر من الخوف بعدي ‏"‏‏.‏

وقال الفضيل‏:‏ من خاف الله دله الخوف على كل خير‏.‏

وقال الشبلي رحمه الله‏:‏ ما خفت الله يوماً إلا رأيت له باباً من الحكمة والعبرة ما رأيته قط‏.‏

وقال يحيى بن معاذ‏:‏ ما من مؤمن يعمل السيئة إلا ويلحقها حسنتان‏:‏ خوف العقاب ورجاء العفو وفي خبر موسى عليه الصلاة والسلام‏:‏ وأما الورعون فإنه لا يبقى أحد إلا ناقشته الحساب وفتشت عما في يديه إلا الورعين فإني أستحي منهم وأجلهم أن أوقفهم للحساب‏.‏

والورع والتقوى أسام اشتقتمن معان شرطها الخوف فإن خلت عن الخوف لم تسم بهذه الأسامي وكذلك ما ورد في فضائل الذكر لا يخفى وقد جعله الله تعالى مخصوصاً بالخائفين فقال ‏"‏ سيذكر من يخشى ‏"‏‏.‏

وقال تعالى ‏"‏ ولمن خاف مقام ربه جنتان ‏"‏‏.‏

وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ قال الله عز وجل‏:‏ وعزتي لا أجمع على عبدي خوفين ولا أجمع له أمنين فإن أمنني في الدنيا أخفته يوم القيامة وإن خافني في الدنيا أمنته يوم القيامة ‏"‏‏.‏

وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ من خاف الله تعالى خافه كل شيء ومن خاف غير الله خوفه الله من كل شيء ‏"‏‏.‏

وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ أتمكم عقلاً أشدكم خوفاً لله تعالى وأحسنكم فيما أمر الله تعالى به ونهى عنه نظراً ‏"‏‏.‏

وقال يحيى بن معاذ رحمة الله عليه‏:‏ مسكين ابن آدم لو خاف النار كما يخاف الفقر دخل الجنة‏.‏

وقال ذو النون أيضاً‏:‏ ينبغي أن يكون الخوف أبلغ من الرجاء فإذا غلب الرجاء تشوش القلب‏.‏

وكان أبو الحسين الضرير يقول‏:‏ علامة السعادة خوف الشقاوة لأن الخوف زمام بين الله تعالى وبين عبده فإذا انقطع زمامه هلك مع الهالكين‏.‏

وقيل ليحيى بن معاذ من آمن الخلق غداً فقال‏:‏ أشدهم خوفاً اليوم‏.‏

وقال سهل رحمه الله‏:‏ لا تجد الخوف حتى تأكل الحلال‏.‏

وقيل للحسين‏:‏ يا أبا سعيد كيف نصنع نجالس أقواماً يخوفونا حتى تكاد قلوبنا تطير‏!‏ فقال‏:‏ والله إنك إن تخالط أقواماً يخوفونك حتى يدركك أمن خير من أن تصحب أقواماً يؤمنوك حتى يدركك الخوف‏.‏

وقال أبو سليمان الداراني رحمه الله‏:‏ ما فارق الخوف قلباً إلا خرب‏.‏

وقالت عائشة رضي الله عنها‏:‏ قلت يا رسول الله ‏"‏ الذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة ‏"‏ هو الرجل يسرق ويزني قال‏:‏ ‏"‏ لا بل الرجل يصوم ويتصدق ويخاف أن لا يقبل منه ‏"‏ والتشديدات الواردة في الأمن من مكر الله وعذابه لا تنحصر وكل ذلك ثناء على الخوف لأن مذمة الشيء ثناء على ضده الذي ينفيه وضد الخوف الأمن كما أن ضد الرجاء اليأس وكما دلت مذمة القنوط على فضيلة الرجاء فكذلك تدل مذمة الأمن على فضيلة الخوف المضاد له بل نقول‏:‏ كل ما ورد في فضل الرجاء فهو دليل على فضل الخوف لأنهما متلازمان فإن كل من رجا محبوباً فلا بد وأن يخاف فوته فإن كان لا يخاف فوته فهو إذاً لا يحبه فلا يكون بانتظاره راجياً فالخوف والرجاء متلازمان يستحيل انفكاك أحدهما عن الآخر نعم يجوز أن يغلب أحدهما على الآخر وهما مجتمعان ويجوز أن يشتغل القلب بأحدهما ولا يلتفت إلى الآخر في الحال لغفلته عنه وهذا لأن من شرط الرجاء والخوف تعلقهما بما هو مشكوك فيه إذ المعلوم لا يرجى ولا يخاف فإذن المحبوب الذي يجوز وجوده يجوز عدمه لا محالة فتقدير وجوده يروح القلب وهو الرجاء وتقدير عدمه يوجع القلب وهو الخوف والتقديران يتقابلان لا محالة إذا كان ذلك الأمر المنتظر مشكوكاً فيه نعم أحد طرفي الشك قد يترجح على الآخر بحضور بعض الأسباب ويسمى ذلك ظناً فيكون ذلك سبب غلبة أحدهما على الآخر فإذا غلب على الظن وجود المحبوب قوي الرجاء وخفي الخوف بالإضافة إليه وكذا بالعكس وعلى كل حال فهما متلازمان ولذلك قال تعالى ‏"‏ ويدعوننا رغباً ورهباً ‏"‏ وقال عز وجل ‏"‏ يدعون ربهم خوفاً وطمعاً ‏"‏ ولذلك عبر العرب عن الخوف بالرجاء فقال تعالى ‏"‏ ما لكم لا ترجون لله وقاراً ‏"‏ أي لا تخافون وكثيراً ما ورد في القرآن الرجاء بمعنى الخوف وذلك لتلازمهما إذ عادة العرب التعبير

عن الشيء بما يلازمه بل أقول‏:‏ كل ما ورد في فضل البكاء من خشية الله فهو إظهار لفضيلة وقال تعالى ‏"‏ يبكون ويزيدهم خشوعاً ‏"‏‏.‏

وقال عز وجل ‏"‏ أفمن هذا الحديث تعجبون وتضحكون ولا تبكون وأنتم سامدون ‏"‏‏.‏

وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ ما من عبد مؤمن تخرج من عينيه دمعة وإن كانت مثل رأس الذباب من خشية الله تعالى ثم تصيب شيئاً من حر وجهه إلا حرمه الله على النار ‏"‏‏.‏

وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ إذا اقشعر قلب المؤمن من خشية الله تحاتت عنه خطاياه كما يتحات من الشجرة ورقها ‏"‏‏.‏

وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ لا يلج النار أحد بكى من خشية الله تعالى حتى يعود اللبن في الضرع ‏"‏‏.‏

وقال عقبة بن عامر‏:‏ ما النجاة يا رسول الله قال‏:‏ ‏"‏ أمسك عليك لسانك وليسعك بيتك وابك على خطيئتك ‏"‏‏.‏

وقالت عائشة رضي الله عنها‏:‏ قلت يا رسول الله أيدخل أحد من أمتك الجنة بغير حساب

قال‏:‏ ‏"‏ نعم من ذكر ذنوبه فبكى ‏"‏‏.‏

وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ ما من قطرة أحب إلى الله تعالى من قطرة دمع من خشية الله تعالى أو قطرة دم أهريقت في سبيل الله سبحانه وتعالى ‏"‏‏.‏

وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ اللهم ارزقني عينين هطالتين تشفيان القلب بذرف الدمع مع

خشيتك قبل أن تصير الدموع دماً والأضراس جمراً ‏"‏‏.‏

وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ سبعة يظلهم الله يوم لا ظل إلا ظله ‏"‏ وذكر منهم ‏"‏ رجلاً ذكر الله خالياً ففاضت عيناه ‏"‏‏.‏

وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه‏:‏ من استطاع أن يبكي فليبك ومن لم يستطع فليتباك‏.‏

وكان محمد بن المنكدر رحمه الله إذا بكى مسح وجهه ولحيته بدموعه ويقول‏:‏ بلغني أن النار لا تأكل موضعاً مسته الدموع‏.‏

وقال عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما‏:‏ ابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا فوالذي نفسي بيده لو يعلم العلم أحدكم لصرخ حتى ينقطع صوته وصلى حتى ينكسر صلبه‏.‏

وقال أبو سليمان الداراني رحمه الله‏:‏ ما تغرغرت عين بمائها إلا لم يرهق وجه صاحبها قتر ولا ذلة يوم القيامة فإن سالت دموعه أطفأ الله بأول قطرة منها بحاراً من النيران ولو أن رجلاً بكى في أمة ما عذبت تلك الأمة‏.‏

وقال أبو سليمان البكاء من الخوف والرجاء والطرب من الشوق‏.‏

وقال كعب الأحبار رضي الله عنه‏:‏ والذي نفسي بيده لأن أبكي من خشية الله حتى تسيل وقال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما‏:‏ لأن أدمع دمعة من خشية الله أحب إلي من أن أتصدق بألف دينار‏.‏

وروي عن حنظلة قال‏:‏ كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فوعظنا موعظة رقت لها القلوب وذرفت منها العيون وعرفنا أنفسنا فرجعت إلى أهلي فدنت مني المرأة وجرى بيننا من حديث الدنيا فنسيت ما كنا عليه عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذنا في الدنيا ثم تذكرت ما كنا فيه فقلت في نفسي‏:‏ قد نافقت حيث تحول عني ما كنت فيه من الخوف والرقة فخرجت وجعلت أنادي‏:‏ نافق حنظلة فاستقبلني أبو بكر الصديق رضي الله عنه فقال‏:‏ كلا لم ينافق حنظلة فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أقول‏:‏ نافق حنظلة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ كلا لم ينافق حنظلة ‏"‏ فقلت يا رسول الله كنا عندك فوعظتنا موعظة وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون وعرفنا أنفسنا فرجعت إلى أهلي فأخذنا في حديث الدنيا ونسيت ما كنا عندك عليه‏.‏

فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ يا حنظلة لو أنكم كنتم أبداً على تلك الحالة لصافحتكم الملائكة في الطريق وعلى فراشكم ولكن يا حنظلة ساعة وساعة ‏"‏‏.‏

فإذن كل ما ورد في فضل الرجاء والبكاء وفضل التقوى والورع وفضل العلم ومذمة الأمن فهو بيان أن الأفضل هو غلبة الخوف أو غلبة الرجاء أو اعتدالهما اعلم أن الأخبار في فضل الخوف والرجاء قد كثرت وربما ينظر الناظر إليها فيعتريه شك في أن الأفضل أيهما وقول القائل‏:‏ الخوف أفضل أم الرجاء سؤال فاسد يضاهي قول القائل‏:‏ الخبز أفضل أم الماء وجوابه أن يقال‏:‏ الخبز أفضل للجائع والماء أفضل للعطشان فإن اجتمعا نظر إلى الأغلب‏:‏ فإن كان الجوع أغلب فالخبز أفضل وإن كان العطش أغلب فالماء أفضل وإن استويا فهما متساويان وهذا لأن كل ما يراد لمقصود ففضله يظهر بالإضافة إلى مقصوده لا إلى نفسه والخوف والرجاء دواءان يداوى بهما القلوب ففضلهما بحسب الداء الموجود فإن كان الغالب على القلب داء الأمن من مكر الله تعالى والاغترار به فالخوف أفضل وإن كان الأغلب هو اليأس والقنوط من رحمة الله فالرجاء أفضل وكذلك إن كان الغالب على العبد المعصية فالخوف أفضل ويجوز أن يقال مطلقاً‏:‏ الخوف أفضل على التأويل الذي يقال فيه الخبز أفضل من السكنجين إذ يعالج بالخبز مرض الجوع وبالسكنجين مرض الصفراء ومرض الجوع أغلب وأكثر فالحاجة إلى الخبز أكثر فهو أفضل فبهذا الاعتبار غلبة الخوف أفضل لأن المعاصي والاغترار على الخلق أغلب وإن نظر إلى مطلع الخوف والرجاء فالرجاء أفضل لأنه مستقى من بحر الرحمة ومستقى الخوف من بحر الغضب ومن لاحظ من صفات الله تعالى ما يقتضي اللطف والرحمة كانت المحبة عليه أغلب وليس وراء المحبة مقام‏.‏

وأما الخوف فمستنده الالتفات إلى الصفات التي تقتضي العنف فلا تمازجه المحبة ممازجتها للرجاء‏.‏

وعلى الجملة فما يراد لغيره ينبغي أن يستعمل فيه لفظ الأصلح لا لفظ الأفضل فنقول‏:‏ أكثر الخلق الخوف لهم أصلح من الرجاء وذلك لأجل غلبة المعاصي‏.‏

فأما التقي الذي ترك ظاهر الإثم وباطنه وخفيه وجليه فالأصلح أن يعتدل خوفه ورجاؤه ولذلك قيل‏:‏ لو وزن خوف المؤمن ورجاؤه لاعتدلا‏.‏

وروي أن علياً كرم الله وجهه قال لبعض ولده‏:‏ يا بني خف الله خوفاً ترى أنك لو أتيته بحسنات أهل الأرض لم يتقبلها منك وارج الله رجاءً ترى أنك لو أتيته بسيئات أهل الأرض غفرها لك‏.‏

ولذلك قال عمر رضي الله عنه‏:‏ لو نودي ليدخل النار كل الناس إلا رجلاً واحداً لرجوت أن أكون أنا ذلك الرجل ولو نودي ليدخل الجنة كل الناس إلا رجلاً واحداً لخشيت أن أكون أنا ذلك الرجل‏.‏

وهذا عبارة عن غاية الخوف والرجاء واعتدالهما مع الغلبة والاستيلاء ولكن على سبيل التقاوم والتساوي فمثل عمر رضي الله عنه ينبغي أن يستوي خوفه ورجاؤه فأما العاصي إذا ظن أنه الرجل الذي استثني من الذين أمروا بدخول النار كان ذلك دليلاً على اغتراره‏.‏

فإن قلت‏:‏ مثل عمر رضي الله عنه لا ينبغي أن يتساوى خوفه ورجاؤه بل ينبغي أن يغلب رجاؤه كما سبق في أول كتاب الرجاء وأن قوته ينبغي أن تكون بحسب قوة أسبابه كما مثل بالزرع والبذر ومعلوم أن من بث البذر الصحيح في أرض نقية وواظب على تعهدها وجاء بشروط الزراعة جميعها غلب على قلبه رجاء الإدراك ولم يكن خوفه مساوياً لرجائه‏.‏

فهكذا ينبغي أن تكون أحوال المتقين‏!‏ فاعلم أن من يأخذ المعارف من الألفاظ والأمثلة يكثر زلله وذلك وإن أوردناه مثالاً فليس يضاهي ما نحن فيه من كل وجه لأن سبب غلبة الرجاء العلم الحاصل بالتجربة إذ علم بالتجربة صحة الأرض ونقاؤها وصحة البذر وصحة الهواء وقلة الصواعق المهلكة في تلك البقاع وغيرها وإنما مثال مسألتنا بذر لم يجرب جنسه وقد بث في أرض غريبة لم يعهدها الزارع ولم يختبرها وهي بلاد ليس يدري أتكثر الصواعق فيها أم لا فمثل هذا الزارع وإن أدى كنه مجهوده وجاء بكل مقدوره فلا يغلب رجاؤه على خوفه والبذر في مسألتنا هو الإيمان - وشروط صحته دقيقة والأرض قلب - وخفايا خبثه وصفائه من الشرك الخفي والنفاق والرياء وخفايا الأخلاق فيه غامضة والآفات هي الشهوات وزخارف الدنيا والتفات القلب إليها في مستقبل الزمان وإن سلم في الحال وذلك مما لا يتحقق ولا يعرف بالتجربة إذ قد يعرض من الأسباب ما لا يطاق مخالفته ولم يجرب مثله والصواعق هي أهوال سكرات الموت واضطراب الاعتقاد عنده وذلك مما لم يجرب مثله ثم الحصاد والإدراك عند المنصرف من القيامة إلى الجنة وذلك لم يجرب فمن عرف حقائق هذه الأمور فإن كان ضعيف القلب جباناً في نفسه غلب خوفه على رجائه لا محالة كما سيحكى في أحوال الخائفين من

الصحابة والتابعين وإن كان قوي القلب ثابت الجأش تام المعرفة استوى خوفه ورجاؤه فأما أن يغلب رجاؤه فلا وقد كان عمر رضي الله عنه يبالغ في تفتيش قلبه حتى كان يسأل حذيفة رضي الله عنه أنه هل يعرف به من آثار النفاق شيئاً إذ كان قد خصه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعلم المنافقين فمن ذا الذي يقدر على تطهير قلبه من خفايا النفاق والشرك الخفي وإن اعتقد نقاء قلبه عن ذلك فمن أين يأمن مكر الله تعالى بتلبيس حاله عليه وإخفاء عيبه عنه وإن وثق به فمن أين يثق ببقائه على ذلك إلى تمام حسن الخاتمة وقد قال صلى الله عليه وسلم إن الرجل ليعمل عمل أهل الجنة خمسين سنة حتى لا يبقى بينه وبين الجنة إلا شبر ‏"‏‏.‏

وفي رواية ‏"‏ إلا قدر فواق ناقة فيسبق عليه الكتاب فيختم له بعمل أهل النار ‏"‏ وقدر فواق الناقة لا يحتمل عملاً بالجوارح إنما هو بمقدار خاطر يختلج في القلب عند الموت فيقتضي خاتمة السوء فكيف يؤمن ذلك فإذن أقصى غايات المؤمن أن يعتدل خوفه ورجاؤه وغلبة الرجاء في غالب الناس تكون مستندة للاغترار وقلة المعرفة ولذلك جمع الله تعالى بينهما في وصف من أثنى عليهم فقال تعالى‏:‏ ‏"‏ يدعون ربهم خوفاً وطمعاً ‏"‏‏.‏

وقال عز وجل‏:‏ ‏"‏ ويدعوننا رغباً ورهباً ‏"‏‏.‏

وأين مثل عمر رضي الله عنه فالخلق الموجودة في هذا الزمان كلهم الأصلح لهم غلبة الخوف بشرط أن لا يخرجهم إلى اليأس وترك العمل وقطع الطمع من المغفرة فيكون ذلك سبباً للتكاسل عن العمل وداعياً إلى الانهماك في المعاصي فإن ذلك قنوط وليس بخوف إنما الخوف هو الذي يحث على العمل ويكدر جميع الشهوات ويزعج القلب عن الركون إلى الدنيا ويدعوه إلى التجافي عن دار الغرور فهو الخوف المحمود دون حديث النفس الذي لا يؤثر في الكف والحث ودون اليأس الموجب للقنوط‏.‏

وقد قال يحيى بن معاذ‏:‏ من عبد الله تعالى بمحض الخوف غرق في بحار الأفكار ومن عبده بمحض الرجاء تاه في مفازة الاغترار ومن عبده بالخوف والرجاء في محجة الادكار‏.‏

وقال مكحول الدمشقي‏:‏ من عبد الله بالخوف فهو حروري ومن عبده بالرجاء فهو مرجئ ومن عبده بالمحبة فهو زنديق ومن عبد بالخوف والرجاء والمحبة فهو موحد‏.‏

فإذن لا بد من الجمع بين هذه الأمور وغلبة الخوف هو الأصلح ولكن قبل الإشراف على الموت أما عند الموت فالأصلح غلبة الرجاء وحسن الظن لأن الخوف جار مجرى السوط الباعث على العمل وقد انقضى وقت العمل فالمشرف على الموت لا يقدر على العمل ثم لا يطيق أسباب الخوف فإن ذلك يقطع نياط قلبه ويعين على تعجيل موته وأما روح الرجاء فإنه يقوي قلبه ويحبب إليه ربه الذي إليه رجاؤه ولا ينبغي أن يفارق أحد الدنيا إلا محباً لله تعالى للقاء الله تعالى فإن من أحب لقاء الله تعالى أحب الله لقاءه والرجاء تقارنه المحبة فمن ارتجى كرمه فهو محبوب والمقصود من العلوم والأعمال كلها معرفة الله تعالى حتى تثمر المعرفة المحبة فإن المصير إليه والقدوم بالموت عليه ومن قدم على محبوبه عظم سروره بقدر محبته ومن فارق محبوبه اشتدت محنته وعذابه فمهما كان القلب الغالب عليه عند الموت حب الأهل والولد والمال والمسكن والعقار والرفقاء والأصحاب‏:‏ فهذا رجل محابه كلها في الدنيا فالدنيا جنته إذ الجنة عبارة عن البقعة الجامعة لجميع المحاب فموته خروج من الجنة وحيلولة بينه وبين ما يشتهيه ولا يخفى حال من يحال بينه وبين ما يشتهيه فإذا لم يكن له محبوب سوى الله تعالى وسوى ذكره ومعرفته والفكر فيه والدنيا وعلائقها شاغلة له عن المحبوب فالدنيا إذن سجنه لأن السجن عبارة عن البقعة المانعة للمحبوس عن الاسترواح إلى محابه فموته قدوم على محبوبه وخلاص من السجن ولا يخفى حال من أفلت من السجن وخلي بينه وبين محبوبه بلا مانع ولا مكدر فهذا أول ما يلقاه كل من فارق الدنيا عقيب موته من الثواب والعقاب فضلاً عما أعده الله لعباده الصالحين مما لم تره عين ولا تسمعه أذن ولا خطر على قلب بشر وفضلاً عما أعده الله تعالى للذين استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة ورضوا بها واطمأنوا إليها من الأنكال والسلاسل والأغلال وضروب الخزي والنكال فنسأل الله تعالى أن يتوفانا مسلمين ويلحقنا بالصالحين ولا مطمع في إجابة هذا الدعاء إلا باكتساب حب الله تعالى ولا سبيل إليه إلا

بإخراج حب غيره من القلب وقطع العلائق عن كل ما سوى الله تعالى من جاه ومال ووطن فالأولى أن تدعو بما دعا به نبينا صلى الله عليه وسلم إذ قال‏:‏ ‏"‏ اللهم ارزقني حبك وحب من أحبك وحب ما يقربني إلى حبك واجعل حبك أحب إلي من الماء البارد ‏"‏ والغرض أن غلبة الرجاء عند الموت أصلح لأنه أجلب للمحبة وغلبة الخوف قبل الموت أصلح لأنه أحرق لنار الشهوات وأقمع لمحبة الدنيا عن القلب ولذلك قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بربه ‏"‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي ما شاء ‏"‏‏.‏

ولما حضرت سليمان التيمي الوفاة قال لابنه‏:‏ يا بني حدثني بالرخص واذكر لي الرجاء حتى ألقى الله على حسن الظن به‏.‏

وقال أحمد بن حنبل رضي الله تعالى عنه لابنه عند الموت‏:‏ اذكر لي الأخبار التي فيها الرجاء وحسن الظن والمقصود من ذلك كله أن يحبب الله تعالى إلى نفسه ولذلك أوحى الله تعالى إلى داود عليه الصلاة والسلام‏:‏ أن حببني إلى عبادي فقال‏:‏ بماذا قال‏:‏ بأن تذكر لهم آلائي ونعمائي‏.‏

فإذن غاية السعادة أن يموت محباً لله تعالى وإنما تحصل المحبة بالمعرفة بإخراج حب الدنيا من القلب حتى تصير الدنيا كلها كالسجن المانع من المحبوب ولذلك رأى بعض الصالحين أبا سليمان الداراني في المنام وهو يطير فسأله فقال‏:‏ الآن أفلت فلما أصبح سأل عن حاله فقيل له‏:‏ إنه مات البارحة‏.‏

بيان الدواء الذي يستجلب حال الخوف

اعلم أن ما ذكرناه في حال الصبر وشرحناه في كتاب الصبر والشكر هو كاف في هذا الغرض لأن الصبر لا يمكن إلا بعد حصول الخوف والرجاء لأن أول مقامات الدين اليقين الذي هو عبارة عن قوة الإيمان بالله تعالى وباليوم الآخر والجنة والنار وهذا اليقين بالضرورة يهيج الخوف من النار والرجاء للجنة والرجاء والخوف يقويان على الصبر فإن الجنة قد حفت بالمكاره فلا يصبر على تحملها إلا بقوة الرجاء والنار قد حفت بالشهوات فلا يصبر على قمعها إلا بقوة الخوف ولذلك قال علي كرم الله وجهه‏:‏ من اشتاق إلى الجنة سلا عن الشهوات ومن أشفق من النار رجع عن المحرمات‏.‏

ثم يؤدي مقام الصبر المستفاد من الخوف والرجاء إلى مقام المجاهدة والتجرد لذكر الله تعالى والفكر على الدوام ويؤدي دوام الذكر إلى الأنس ودوام الفكر إلى كمال المعرفة ويؤدي كمال المعرفة والأنس إلى المحبة ويتبعها مقام الرضا والتوكل وسائر المقامات فهذا هو الترتيب في سلوك منازل الدين وليس بعد أصل اليقين مقام سوى الخوف والرجاء ولا بعدهما مقام سوى الصبر وبه المجاهدة والتجرد لله ظاهراً وباطناً ولا مقام بعد المجاهدة لمن فتح له الطريق إلا الهداية والمعرفة ولا مقام بعد المعرفة إلا المحبة والأنس ومن ضرورة المحبة الرضا يفعل المحبوب والثقة بعنايته وهو التوكل فإذن فيما ذكرناه في علاج الصبر كفاية ولكنا نفرد الخوف بكلام جملي فنقول‏:‏ الخوف يحصل بطريقين مختلفين أحدهما أعلى من الآخر ومثاله‏:‏ أن الصبي إذا كان في بيت فدخل عليه سبع أو حية ربما كان لا يخاف وربما مد اليد إلى الحية ليأخذها ويلعب بها ولكن إذا كان معه أبوه وهو عاقل خاف من الحية وهرب منها فإذا نظر الصبي إلى أبيه وهو ترتعد فرائصه ويحتال في الهرب منها قام معه وغلب عليه الخوف ووافقه في الهرب فخوف الأب عن بصيرة ومعرفة بصفة الحية وسمها وخاصيتها وسطوة السبع وبطشه وقلة مبالاته وأما خوف الابن فإيمانه بمجرد التقليد لأنه يحسن الظن بأبيه ويعلم أنه لا يخاف إلا من سبب مخوف في نفسه فيعلم أن السبع مخوف ولا يعرف وجهه وإذا عرفت هذا المثال فاعلم أن الخوف من الله تعالى على مقامين‏:‏ أحدهما الخوف من عذابه والثاني الخوف منه فأما الخوف منه فهو خوف من العلماء وأرباب القلوب العارفين من صفاته ما يقتضي الهيبة والخوف والحذر المطلعين على سر قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ ويحذركم الله نفسه ‏"‏ وقوله عز وجل ‏"‏ اتقوا الله حق تقاته ‏"‏ وأما الأول فهو خوف عموم الخلق وهو حاصل بأصل الإيمان بالجنة والنار وكونهما جزاءين على الطاعة والمعصية وضعفه بسبب الغفلة وسبب ضعف الإيمان وإنما تزول الغفلة بالتذكير والوعظ وملازمة الفكر في أهوال يوم القيامة وأصناف العذاب في الآخرة وتزول أيضاً بالنظر إلى الخائفين ومجالستهم ومشاهدة أحوالهم فإن فاتت المشاهدة فالسماع لا يخلو عن تأثير وأما الثاني وهو الأعلى فأن يكون الله هو المخوف أعني أن يخاف العبد الحجاب عنه ويرجو القرب منه‏.‏

قال ذو النون رحمه الله تعالى‏:‏ خوف النار عند خوف الفراق كقطرة قطرت في بحر لجي‏.‏

وهذه خشية العلماء حيث قال تعالى ‏"‏ إنما يخشى الله من عباده العلماء ‏"‏ ولعموم المؤمنين أيضاً حظ من هذه الخشية ولكن هو بمجرد التقليد أيضاً هو خوف الصبي من الحية تقليداً لأبيه وذلك لا يستند إلى بصيرة فلا جرم يضعف ويزول على قرب حتى إن الصبي ربما يرى المعزم يقدم على أخذ الحياة فينظر إليه ويغتر به فيتجرأ على أخذها تقليداً له كما احترز من أخذها تقليداً لأبيه والعقائد التقليدية ضعيفة في الغالب إلا إذا قويت بمشاهدة أسبابها المؤكدة لها على الدوام وبالمواظبة على مقتضاها في تكثير الطاعات واجتناب المعاصي مدة طويلة على الاستمرار فإذن من ارتقى إلى ذروة المعرفة وعرف الله تعالى خافه بالضرورة فلا يحتاج إلى علاج لجلب الخوف كما أن من عرف السبع ورأى نفسه واقعاً في مخالبه لا يحتاج إلى علاج لجلب الخوف إلى قلبه بل يخافه بالضرورة شاء أم أبى ولذلك أوحى الله تعالى إلى داود عليه الصلاة والسلام‏:‏ خفني كما تخاف السبع الضاري‏.‏

ولا حيلة في جلب الخوف من السبع الضاري إلا معرفة السبع ومعرفة الوقوع في مخالبه فلا يحتاج إلى خيلة سواه فمن عرف الله تعالى عرف أنه يفعل ما يشاء ولا يبالي ويحكم ما يريد ولا يخاف قرب الملائكة من غير وسيلة سابقة وأبعد إبليس من غير جريمة سالفة بل صفته ما ترجمه قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ هؤلاء في الجنة ولا أبالي وهؤلاء في النار ولا أبالي ‏"‏‏.‏

وإن خطر ببالك أنه لا يعاقب إلا على معصية ولا يثيب إلا على طاعة فتأمل أنه لم يمد المطيع بأسباب الطاعة حتى يطيع شاء أم أبى ولم يمد العاصي بدواعي المعصية حتى يعصى شاء أم أبى فإنه مهما خلق الغفلة والشهوة والقدرة على قضاء الشهوة كان الفعل واقعاً بها بالضرورة فإن كان أبعده لأنه عصاه فلم حمله على المعصية هل ذلك لمعصية سابقة حتى يتسلسل إلى غير نهاية أو يقف لا محالة على أول لا علة له من جهة العبد بل قضي عليه في الأزل وعن هذا المعنى عبر صلى الله عليه وسلم إذ قال‏:‏ ‏"‏ احتج آدم وموسى عليهما الصلاة والسلام عند ربهما فحج آدم موسى عليه السلام قال موسى أنت آدم الذي خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه وأسجد لك ملائكته وأسكنك جنته ثم أهبطت الناس بخطيئتك إلى الأرض‏.‏

فقال آدم‏:‏ أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالته وبكلامه وأعطاك الألواح فيها تبيان كل شيء وقربك نجياً فبكم وجدت الله كتب التوراة قبل أن أخلق قال موسى‏:‏ بأربعين عاماً قال آدم‏:‏ فهل وجدت فيها ‏"‏ وعصى آدم ربه فغوى ‏"‏ قال نعم‏.‏

قال‏:‏ أفتلومني على أن عملت عملاً كتبه الله علي قبل أن أعمله وقبل أن يخلقني بأربعين سنة قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ فحج آدم موسى ‏"‏ فمن عرف السبب في هذا الأمر معرفة صادرة عن نور الهداية فهو من خصوص العارفين المطلعين على سر القدر ومن سمع هذا فآمن به وصدق بمجرد السماع فهو من عموم المؤمنين ويحصل لكل واحد من الفريقين خوف فإن كل عبد فهو واقع في قبضة القدرة وقوع الصبي الضعيف في مخالب السبع والسبع قد يغفل بالاتفاق فيخليه وقد يهجم عليه فيفترسه وذلك بحسب ما يتفق ولذلك الاتفاق أسباب مرتبة بقدر معلوم ولكن إذا أضيف إلى من لا يعرفه

سمي اتفاقاً وإن أضيف إلى علم الله لم يجز أن يسمى اتفاقاً والواقع في مخالب السبع لو كملت معرفته لكان لا يخاف السبع لأن السبع مسخر‏:‏ إن سلط عليه الجوع افترس وإن سلط عليه الغفلة خلى وترك فإنما يخاف خالق السبع وخالق صفاته فلست أقول مثال الخوف من الله تعالى الخوف من السبع بل إذا كشف الغطاء علم أن الخوف من السبع هو عين الخوف من الله تعالى لأن المهلك بواسطة السبع هو الله فاعلم أن سباع الآخرة مثل سباع الدنيا وأن الله تعالى خلق أسباب العذاب وأسباب الثواب وخلق لكل واحد أهلاً يسوقه القدر المتفرع عن القضاء الجزم الأزلي إلى ما خلق له فخلق الجنة وخلق لها أهلاً سخروا لأسبابها شاؤوا أم أبوا وخلق النار وخلق لها أهلاً سخروا لأسبابها شاؤوا أم أبوا فلا يرى أحد نفسه في ملتطم أمواج القدر إلا غلبه الخوف بالضرورة فهذه مخاوف العارفين بسر القدر فمن قعد به القصور عن الارتفاع إلى مقام الاستبصار فسبيله أن يعالج نفسه الأخبار والآثار فيطالع أحوال الخائفين العارفين وأقوالهم وينسب عقولهم ومناصبهم إلى مناصب الراجين المغرورين فلا يتمارى في أن الإقتداء بهم أولى لأنهم الأنبياء والأولياء والعلماء‏.‏

وأما الآمنون فهم الفراعنة والجهال والأغبياء‏.‏

أما رسولنا صلى الله عليه وسلم فهو سيد الأولين والآخرينوكان أشد الناس خوفاًحتى روي أنه كان يصلي على طفل‏:‏ ففي رواية أنه سمع في دعائه يقول‏:‏ ‏"‏ اللهم قِه عذاب القبر وعذاب النار ‏"‏ وفي رواية ثانية‏:‏ أنه سمع قائلاً يقول‏:‏ هنيئاً لك عصفور من عصافير الجنة فغضب وقال‏:‏ ‏"‏ ما يدريك أنه كذلك والله إني رسول الله وما أدري ما يصنع بي‏!‏ إن الله خلق الجنة وخلق لها أهلاً لا يزاد فيهم ولا ينقص منهم ‏"‏‏.‏

وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال ذلك أيضاً على جنازة عثمان بن مظعون وكان من المهاجرين الأولين لما قالت أم سلمة‏:‏ هنيئاً لك الجنة فكانت تقول أم سلمة بعد ذلك‏:‏ والله لا أزكي أحداً بعد عثمان‏.‏

وقال محمد بن خولة الحنفية‏:‏ والله لا أزكي أحداً غير رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أبي الذي ولدني قال‏:‏ فثارت الشيعة عليه فأخذ يذكر من فضائل علي ومناقبه‏.‏

وروي في حديث آخر عن رجل من أهل الصفة استشهد فقالت أمه هنيئاً لك عصفور من عصافير الجنة هاجرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقتلت في سبيل الله فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ وما يدريك لعله كان يتكلم بما لا ينفعه ويمنع ما لا يضره ‏"‏‏.‏

وفي حديث آخر أنه دخل صلى الله عليه وسلم على بعض أصحابه وهو عليل فسمع امرأة تقول‏:‏ هنيئاً لك الجنة فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ من هذه المتألية على الله تعالى فقال المريض‏:‏ هي أمي يا رسول الله فقال‏:‏ ‏"‏ وما يدريك لعل فلاناً كان يتكلم بما لا يعنيه ويبخل بما لا يغنيه ‏"‏ وكيف لا يخاف المؤمنون كلهم وهو صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏ شيبتني هود وأخواتها ‏"‏ سورة الواقعة وإذا الشمس كورت وعم يتساءلون فقال العلماء‏:‏ لعل ذلك لما في سورة هود من الإبعاد كقوله تعالى ‏"‏ ألا بعداً لعاد قوم هود ‏"‏ ‏"‏ ألا بعداً لثمود ‏"‏ ‏"‏ ألا بعداً لمدين كما بعدت ثمود ‏"‏ مع علمه صلى الله عليه وسلم بأنه لو شاء الله ما أشركوا إذ لو شاء لأتى كل نفس هداها وفي سورة الواقعة ‏"‏ ليس لوقعتها كاذبة خافضة رافعة ‏"‏ أي جف القلم بما هو كائن وتمت السابقة حتى نزلت الواقعة‏:‏ إما خافضة قوماً كانوا مرفوعين في الدنيا وإما رافعة قوماً كانوا مخفوضين في الدنيا‏.‏

وفي سورة التكوير أهوال يوم القيامة وانكشاف الخاتمة وهو قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ وإذا الجحيم سعرت وإذا الجنة أزلفت علمت نفس ما أحضرت ‏"‏ وفي عم يتساءلون ‏"‏ يوم ينظر المرء ما قدمت يداه ‏"‏ الآية‏.‏

وقوله تعالى ‏"‏ لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صواباً ‏"‏ والقرآن من أوله إلى آخره مخاوف لمن قرأه بتدبر ولو لم يكن فيه إلا قوله تعالى ‏"‏ وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى ‏"‏ لكان كافياً إذ علق المغفرة على أربعة شروط يعجز العبد عن آحادها وأشد منه قوله تعالى ‏"‏ فأما من تاب وآمن وعمل صالحاً فعسى أن يكون من المفلحين ‏"‏‏.‏

وقوله تعالى ‏"‏ ليسأل الصادقين عن صدقهم ‏"‏ وقوله تعالى ‏"‏ سنفرغ لكم آية الثقلان ‏"‏ وقوله عز وجل ‏"‏ أفأمنوا مكر الله ‏"‏ الآية‏.‏

وقوله‏:‏ ‏"‏ وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد ‏"‏ وقوله تعالى ‏"‏ يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفداً ‏"‏ الآيتين‏.‏

وقوله تعالى ‏"‏ وإن منكم إلا واردها ‏"‏ الآية‏.‏

وقوله‏:‏ ‏"‏ اعملوا ما شئتم ‏"‏ الآية‏.‏

وقوله‏:‏ ‏"‏ من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ‏"‏ الآية‏.‏

وقوله‏:‏ ‏"‏ فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ‏"‏ الآيتين‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ وقدمنا إلى ما عملوا من عمل ‏"‏ الآية‏.‏

وكذلك قوله تعالى ‏"‏ والعصر إن الإنسان

لفي خسر ‏"‏ إلى آخر السورة فهذه أربع شروط للخلاص من الخسران وإنما كان خوف الأنبياء مع ما فاض عليهم من النعم لأنهم لم يأمنوا مكر الله تعالى ‏"‏ فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون ‏"‏ حتى روي أن النبي وجبريل عليهما الصلاة والسلام بكيا خوفاً من الله تعالى فأوحى الله إليهما لم تبكيان وقد أمنتكما فقالا‏:‏ ومن يأمن مكرك وكأنهما إذ علما أن الله هو علام الغيوب وأنه لا وقوف لهما على غاية الأمور لم يأمنا أن يكون قوله‏:‏ قد أمنتكما ابتلاءً وامتحاناً لهما ومكراً بهما حتى إن سكن خوفهما ظهر أنهما قد أمنا من المكر وما وفيا بقولهما كما أن إبراهيم صلى الله عليه وسلم لما وضع في المنجنيق قال‏:‏ حسبي الله وكانت هذه من الدعوات العظام فامتحن وعورض بجبريل في الهواء حتى قال‏:‏ ألك حاجة فقال‏:‏ أما إليك فلا فكان ذلك وفاءً بحقيقة قوله حسبي الله فأخبر الله تعالى عنه فقال‏:‏ ‏"‏ وإبراهيم الذي وفى ‏"‏ أي بموجب قوله‏:‏ حسبي الله وبمثل هذا أخبر عن موسى صلى الله عليه وسلم حيث قال‏:‏ ‏"‏ إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى قال لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى ‏"‏ ومع هذا لما ألقى السحرة سحرهم أوجس موسى في نفسه خيفة إذاً لم يأمن مكر الله والتبس الأمر عليه حتى جدد عليه الأمن وقيل له‏:‏ ‏"‏ لا تخف إنك أنت الأعلى ‏"‏ ولما ضعفت شوكة المسلمين يوم بدر قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ اللهم إن تهلك هذه العصابة لم يبق على وجه الأرض أحد يعبدك ‏"‏ فقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه‏:‏ دع عنك مناشدتك ربك فإنه وافٍ لك بما وعدك فكان مقام الصديق رضي الله عنه مقام الثقة بوعد الله وكان مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم مقام الخوف من مكر الله وهو أتم لأنه لا يصدر إلا عن كمال المعرفة بأسرار الله تعالى وخفايا أفعاله ومعاني صفاته التي يعبر عن بعض ما يصدر عنها بالمكر وما لأحد من البشر الوقوف على كنه صفات الله تعالى ومن عرف حقيقة المعرفة قصور معرفته عن الإحاطة بكنه الأمور عظم خوفه لا محالة ولذلك قال المسيح صلى الله عليه وسلم لما قيل له ‏"‏ أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك ‏"‏ وقال‏:‏ ‏"‏ إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم ‏"‏

الآية فوض الأمر إلى المشيئة وأخرج نفسه بالكلية من البين لعلمه بأنه ليس له من الأمر بشيء وأن الأمور مرتبطة بالمشيئة ارتباطاً يخرج عن حد المعقولات والمألوفات فلا يمكن الحكم عليها بقياس ولا حدس ولا حسبان فضلاً عن التحقيق والاستيقان وهذا هو الذي قطع قلوب العارفين إذ الطامة الكبرى هي ارتباط أمرك بمشيئة من لا يبالي بك إن أهلك أمثالي ممن لا يحصى ولم يزل في الدنيا يعذبهم بأنواع الآلام والأمراض ويمرض مع ذلك قلوبهم بالكفر والنفاق ثم يخلد العقاب عليهم أبد الآباد ثم يخبر عنه ويقول ‏"‏ ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين ‏"‏ وقال تعالى ‏"‏ وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم ‏"‏ الآية‏.‏

فكيف لا يخاف ما حق من القول في الأزل ولا يطمع في تداركه ولو كان الأمر آنفاً لكانت الأطماع تمتد إلى حيلة فيه ولكن ليس إلا التسليم فيه والاستقراء خفي السابقة من جلي الأسباب الظاهرة على القلب والجوارح فمن يسرت له أسباب الشر وحيل بينه وبين أسباب الخير وأحكمت علاقته من الدنيا فكأنه كشف له على التحقيق سر السابقة التي سبقت له بالشقاوة إذ كل ميسر لما خلق له وإن كانت الخيرات كلها ميسرة والقلب بالكلية عن الدنيا منقطعاً وبظاهره وباطنه على الله مقبلاً‏:‏ كان هذا يقتضي تخفيف الخوف لو كان الدوام على ذلك موثوقاً به ولكن خطر الخاتمة وعسر الثبات يزيد نيران الخوف إشعالاً ولا يمكنها من الانطفاء وكيف يؤمن تغير الحال وقلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن وأن القلب أشد تقلباً من القدر في غليانها وقد قال مقلب القلوب عز وجل ‏"‏ إن عذاب ربهم غير مأمون ‏"‏ فأجهل الناس من أمنه وهو ينادي بالتحذير من الأمن ولولا أن الله لطف بعباده العارفين إذ روح قلوبهم بروح الرجاء لاحترقت قلوبهم من نار الخوف‏.‏

فأسباب الرجاء رحمة لخواص الله وأسباب الغفلة رحمة على عوام الخلق من وجه إذ لو انكشف الغطاء لزهقت النفوس وتقطعت القلوب من خوف مقلب القلوب‏.‏

قال بعض العارفين‏:‏ لو حالت بينك وبين من عرفته بالتوحيد خمسين سنة أسطوانة فمات لم أقطع له بالتوحيد لأني لا أدري ما ظهر له من التقلب‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ لو كانت الشهادة على باب الدار والموت على الإسلام عند باب الحجرة لاخترت الموت على الإسلام لأني لا أدري ما يعرض لقلبي بين باب الحجرة وباب الدار‏.‏

وكان أبو الدرداء يحلف بالله ما أحد أمن على إيمانه أن يسلبه عند الموت إلا سلبه‏.‏

وكان سهل يقول‏:‏ خوف الصديقين من سوء الخاتمة عند كل خطرة وعند كل حركة وهم الذين وصفهم الله تعالى إذ قال‏:‏ ‏"‏ وقلوبهم وجلة ‏"‏‏.‏

ولما احتضر سفيان جعل يبكي ويجزع فقيل له‏:‏ يا أبا عبد الله عليك بالرجاء فإن عفو الله أعظم من ذنوبك‏.‏

فقال‏:‏ أو على ذنوبي أبكي لو علمت أني أموت على التوحيد لم أبال بأن ألقى الله بأمثال الجبال من الخطايا‏.‏

وحكي عن بعض الخائفين أنه أوصى بعض إخوانه فقال‏:‏ إذا حضرتني الوفاة فاقعد عند رأسي فإن رأيتني مت على التوحيد فخذ جميع ما أملكه فاشتر به لوزاً وسكراً وانثره على صبيان أهل البلد وقل هذا عرس المنفلت وإن مت على غير التوحيد فأعلم الناس بذلك حتى لا يغتروا بشهود جنازتي ليحضر جنازتي من أحب على بصيرة لئلا يلحقني الرياء بعد الوفاة‏.‏

قال‏:‏ وبم اعلم ذلك فذكر له علامة فرأى علامة التوحيد عند موته فاشترى السكر واللوز وفرقه‏.‏

وكان سهل يقول‏:‏ المريد يخاف أن يبتلى بالمعاصي والعارف يخاف أن يبتلى بالكفر‏.‏

وكان أبو زيد يقول‏:‏ إذا توجهت إلى المسجد فكأن في وسطي زناراً أخاف أن يذهب بي إلى البيعة وبيت النار حتى أدخل المسجد فينقطع عني الزنار فهذا لي في كل يوم خمس مرات‏.‏

وروي عن المسيح عليه الصلاة والسلام أنه قال‏:‏ يا معشر الحواريين أنتم تخافون المعاصي ونحن معاشر الأنبياء نخاف الكفر‏.‏

وروي في أخبار الأنبياء أن نبياً شكى إلى الله تعالى الجوع والقمل والعري سنين وكان لباسه الصوف فأوحى الله تعالى إليه‏:‏ عبدي أما رضيت أن عصمت قلبك أن تكفر بي حتى

تسألني الدنيا فأخذ التراب فوضعه على رأسه وقال‏:‏ بلى قد رضيت يا رب فاعصمني من فإذا كان خوف العارفين مع رسوخ أقدامهم وقوة إيمانهم من سوء الخاتمة فكيف لا يخافه الضعفاء‏.‏

ولسوء الخاتمة أسباب تتقدم على الموت مثل البدعة والنفاق والكبر وجملة من الصفات المذمومة ولذلك اشتد خوف الصحابة من النفاق حتى قال الحسن‏:‏ لو أعلم أني بريء من النفاق كان أحب إلي مما طلعت عليه الشمس وما عنوا به النفاق الذي هو ضد أصل بل المراد به ما يجتمع مع أصل الإيمان فيكون مسلماً منافقاً وله علامات كثيرة‏:‏ قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ أربع من كن فيه فهو منافق خالص وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم وإن كانت فيه خصلة منهن ففيه شعبة من النفاق حتى يدعها‏:‏ من إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا ائتمن خان وإذا خاصم فجر ‏"‏ وفي لفظ آخر ‏"‏ وإذا عاهد غدر ‏"‏‏.‏

وقد فسر الصحابة والتابعون النفاق بتفاسير لا يخلو عن شيء منه إلا صديق إذ قال الحسن‏:‏ إن من النفاق اختلاف السر والعلانية واختلاف اللسان والقلب واختلاف المدخل والمخرج ومن الذي يخلو عن هذه المعاني بل صارت هذه الأمور مألوفة بين الناس معتادة ونسي كونها منكر بالكلية بل جرى ذلك على قرب عهد بزمان النبوة فكيف الظن بزماننا‏!‏ حتى قال حذيفة رضي الله تعالى عنه‏:‏ إن كان الرجل ليتكلم بالكلمة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيصير بها منافقاً إني لأسمعها من أحدكم في اليوم عشر مرات‏.‏

وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون‏:‏ إنكم لتعملون أعمالاً هي أدق في أعينكم من الشعر كنا نعدها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكبائر‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ علامة النفاق أن تكره من الناس ما تأتي مثله وأن تحب على شيء من الجور وأن تبغض على شيء من الحق‏.‏

وقيل من النفاق‏:‏ أنه إذا مدح بشيء ليس فيه أعجبه‏.‏

وقال رجل لابن عمر رحمه الله‏:‏ إنا ندخل على هؤلاء الأمراء فنصدقهم فيما يقولون فإذا خرجنا تكلمنا فيهم فقال‏:‏ كنا نعد هذا نفاقاً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

وروي أنه سمع رجلاً يذم الحجاج ويقع فيه فقال‏:‏ أرأيت لو كان الحجاج أكنت تتكلم بما تكلمت به قال‏:‏ لا قال‏:‏ كنا نعد هذا نفاقاً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

وأشد من ذلك ما روي أن نفراً قعدوا على باب حذيفة ينتظرونه فكانوا يتكلمون في شيء من شأنه فلما خرج عليهم سكتوا حياءً منه فقال‏:‏ تكلموا فيما كنتم تقولون فسكتوا فقال‏:‏ كنا نعد هذا نفاقاً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

وهذا حذيفة كان قد خص بعلم المنافقين وأسباب النفاق وكان يقول‏:‏ إنه يأتي على القلب ساعة يمتلئ بالإيمان حتى لا يكون للنفاق فيه مغرز إبرة ويأتي عليه ساعة يمتلئ بالنفاق حتى لا يكون للأيمان فيه مغرز إبرة فقد عرفت بهذا أن خوف العارفين من سوء الخاتمة وأن سببه أمور تتقدمه‏:‏ منها البدع ومنها المعاصي ومنها النفاق ومتى يخلو العبد عن شيء من جملة ذلك‏!‏ وإن ظن أنه خلا عنه فهو النفاق إذ قيل‏:‏ من أمن النفاق فهو منافق‏.‏

وقال بعضهم لبعض العارفين‏:‏ إني أخاف على نفسي النفاق فقال‏:‏ لو كنت منافقاً لما خفت النفاق‏.‏

فلا يزال العارف بين الالتفات إلى السابقة والخاتمة خائفاً منهما ولذلك قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ العبد المؤمن بين مخافتين‏:‏ بين أجل قد مضى لا يدري ما الله صانع فيه وبين أجل قد بقي لا يدري ما الله قاض فيه فوالذي نفسي بيده ما بعد الموت من مستعتب ولا بعد الدنيا من دار إلا الجنة أو النار ‏"‏ والله المستعان‏.‏

بيان معنى سوء الخاتمة

فإن قلت‏:‏ إن أكثر هؤلاء يرجع خوفهم إلى سوء الخاتمة فما معنى سوء الخاتمة فاعلم أن سوء الخاتمة على رتبتين‏:‏ إحداهما أعظم من الأخرى فأما الرتبة العظيمة الهائلة‏:‏ فأن يغلب على القلب عند سكرات الموت وظهور أهواله‏:‏ إما الشك وإما الجحود فتقبض الروح على حال غلبة الجحود أو الشك فيكون ما غلب على القلب من عقدة الجحود حجاباً بينه وبين الله تعالى أبداً وذلك يقتضي البعد الدائم والعذاب المخلد‏.‏

والثانية‏:‏ وهي دونها أن يغلب على قلبه عند الموت حب أمر من أمور الدنيا وشهوة من شهواتها فيتمثل ذلك في قلبه ويستغرقه حتى لا يبقى في تلك الحالة متسع لغيره فيتفق قبض روحه في تلك الحال فيكون استغراق قلبه به منكساً رأسه إلى الدنيا وصارفاً وجهه إليها‏.‏

ومهما انصرف الوجه عن الله تعالى حصل الحجاب‏.‏

ومهما حصل الحجاب نزل العذاب إذ نار الله الموقدة لا تأخذ إلا المحجوبين عنه فأما المؤمن السليم قلبه من حب الدنيا المصروف همه إلى الله تعالى فتقول له النار‏:‏ جز يا مؤمن فإن نورك أطفأ لهبي فمهما اتفق قبض الروح في حالة غلبة حب الدنيا فالأمر مخطر لأن المرء يموت على ما عاش عليه ولا يمكن اكتساب صفة أخرى للقلب بعد الموت تضاد الصفة الغالبة عليه إذ لا تصرف في القلوب إلا بأعمال الجوارح وقد بطلت الجوارح بالموت فبطلت الأعمال فلا مطمع في عمل ولا مطمع في رجوع إلى الدنيا ليتدراك وعند ذلك تعظم الحسرة إلا أن أصل الإيمان وحب الله تعالى إذا كان قد رسخ في القلب مدة طويلة وتأكد ذلك بالأعمال الصالحة فإنه يمحو عن القلب هذه الحالة التي عرضت له عند الموت فإن كان إيمانه في القوة إلى حد مثقال أخرجه من النار في زمان أقرب وإن كان أقل من ذلك طال مكثه في النار ولو لم يكن إلا مثقال حبة فلا بد وأن يخرجه من النار ولو بعد آلاف سنين‏.‏

فإن قلت‏:‏ فما ذكرته يقتضي أن تسرع إليه عقيب موته فما باله يؤخر إلى يوم القيامة ويمهل طول هذه المدة فاعلم أن كل من أنكر عذاب القبر فهو مبتدع محجوب عن نور الله تعالى وعن نور القرآن ونور الإيمان بل الصحيح عند ذوي الأبصار ما صحت به الأخبار وهو‏:‏ أن القبر إما حفرة من حفر النار أو روضة من رياض الجنة وأنه قد يفتح إلى قبر المعذب سبعون باباً من الجحيم كما وردت به الأخبار فلا تفارقه روحه إلا وقد نزل به البلاء إن كان قد شقي بسوء الخاتمة‏.‏

وإنما تختلف أصناف العذاب باختلاف الأوقات فيكون سؤال منكر ونكير عند الوضع في القبر والتعذيب بعده ثم المناقشة في الحساب والافتضاح على ملأ من الأشهاد في القيامة ثم بعد ذلك خطر الصراطوهول الزبانية‏.‏

إلى آخر ما وردت به الأخبار فلا يزال الشقي متردداً في جميع أحواله بين أصناف العذاب وهو في جملة الأحوال معذب إلا أن يتغمده الله برحمته ولا تظنن أن محل الإيمان لا يأكله التراب بل التراب يأكل جميع الجوارح ويبددها إلى أن يبلغ الكتاب أجله فتجتمع الأجزاء المتفرقة وتعاد إليها الروح التي هي محل الإيمان وقد كانت من وقت الموت إلى الإعادة إما في حواصل طيور خضر معلقة تحت العرش إن كانت سعيدة وإما على حالة تضاد هذه الحال إن كانت والعياذ بالله شقية‏.‏

فإن قلت‏:‏ فما السبب الذي يفضي إلى سوء الخاتمة فاعلم أن أسباب هذه الأمور لا يمكن إحصاؤها على التفصيل ولكن يمكن الإشارة إلى مجامعها‏:‏ أما الختم على الشك والجحود فينحصر سببه في شيئين‏:‏ أحدهما يتصور مع تمام الورع والزهد وتمام الصلاح في الأعمال‏:‏ كالمبتدع الزاهد فإن عاقبته مخطرة جداً وإن كانت أعماله صالحة ولست أعني مذهباً فأقول إنه بدعة فإن بيان ذلك يطول القول فيه بل أعني بالبدعة‏:‏ أن يعتقد الرجل في ذات الله وصفاته وأفعاله خلاف الحق فيعتقده على خلاف ما هو عليه إما برأيه ومعقوله له ونظره الذي به يجادل الخصم وعليه يعول وبه يغتر وإما أخذاً بالتقليد ممن هذا حاله فإذا قرب الموت وظهرت له ناصية ملك الموت واضطرب القلب بما فيه ربما ينكشف له في حال سكرات الموت بطلان ما اعتقده جهلاً إذ حال الموت حال كشف الغطاء ومبادئ سكراته منه فقد ينكشف به بعض الأمور فمهما بطل عنده ما كان اعتقده وقد كان قاطعاً به متيقناً له نفسه لم يظن بنفسه أنه أخطأ في هذا الاعتقاد خاصة

لالتجائه فيه إلى رأيه الفاسد وعقله الناقص بل ظن أن كل ما اعتقده لا أصل له إذ لم يكن عنده فرق في إيمانه بالله ورسوله وسائر اعتقاداته الصحيحة وبين اعتقاده الفاسد فيكون انكشاف بعض اعتقاداته عن الجهل سبباً لبطلان بقية اعتقاداته أو لشكه فيها فإن اتفق زهوق روحه في هذه الخطرة قبل أن يثبت ويعود إلى أصل الإيمان فقد ختم له بالسوء وخرجت روحه على الشرك والعياذ بالله منه فهؤلاء هم المرادون بقوله تعالى ‏"‏ وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون ‏"‏ وبقوله عز وجل ‏"‏ قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً ‏"‏ وكما أنه ينكشف في النوم ما سيكون في المستقبل وذلك بسبب خفة أشغال الدنيا عن القلب فكذلك ينكشف في سكرات الموت بعض الأمور إذ شواغل الدنيا وشهوات البدن هي المانعة للقلب من أن ينظر إلى الملكوت فيطالع ما في اللوح المحفوظ لتنكشف له الأمور على ما هي عليه فيكون مثل هذه الحال سبباً للكشف ويكون الكشف سبب الشك في بقية الاعتقادات وكل من اعتقد في الله تعالى وفي صفاته وأفعاله شيئاً على خلاف ما هو به إما تقليداً وإما نظراً بالرأي والمعقول فهو في هذا الخطر والزهد والصلاح لا يكفي لدفع هذا الخطر بل لا ينجي منه إلا الاعتقاد الحق والبله بمعزل عن هذا الخطر أعني الذين آمنوا بالله ورسوله واليوم الآخر إيماناً مجملاً راسخاً كالأعراب والسوادية وسائر العوام الذين لم يخوضوا في البحث والنظر ولم يشرعوا في الكلام استقلالاً ولأصغوا إلى أصناف المتكلمين في تقليد أقاويلهم المختلقة ولذلك قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ أكثر أهل الجنة البله ‏"‏ ولذلك منع السلف من البحث والنظر والخوض في الكلام والتفتيش عن هذه الأمور وأمروا الخلق أن يقتصروا على أن يؤمنوا بما أنزل الله عز وجل جميعاً وبكل ما جاء من الظواهر مع اعتقاده نفي التشبيه ومنعوهم عن الخوض في التأويل لأن الخطر في البحث عن الصفات عظيم وعقباته كئودة ومسالكه وعرة والعقول عن درك جلال الله تعالى قاصرة وهداية الله تعالى بنور اليقين عن القلوب بما جبلت عليه من حب الدنيا محجوبة وما ذكره الباحثون ببضاعة عقولهم مضطرب ومتعارض والقلوب لما ألقى إليها في مبدأ النشأة آلفة وبه متعلقة والتعصيات الثائرة بين الخلق مسامير مؤكدة للعقائد الموروثة أو المأخوذة بحسن الظن من المعلمين في أول الأمر ثم الطباع بحب الدنيا مشغوفة وعليها مقبلة وشهوات الدنيا بمخنقها آخذة وعن تمام الفكر صارفة فإذا فتح باب الكلام في الله وفي صفاته بالرأي والمعقول مع تفاوت الناس في قرائحهم واختلافهم في طبائعهم وحرص كل جاهل منهم على أن يدعي الكمال أو الإحاطة بكنه الحق انطلقت ألسنتهم بما يقع لكل واحد منهم وتعلق ذلك بقلوب المصغين إليهم وتأكد ذلك بطول الألف فيهم فانسد بالكلية طريق الخلاص عليهم فكانت سلامة الخلق في أن يشتغلوا بالأعمال الصالحة ولا يتعرضوا لما هو خارج عن حد طاقتهم ولكن الآن قد استرخى العنان وفشا الهذيان ونزل كل جاهل على ما وافق طبعه بظن وحسبان وهو يعتقد أن ذلك علم واستيقان وأنه صفو الإيمان ويظن أن ما وقع به من حدس وتخمين علم اليقين و عين اليقين ‏"‏ ولتعلمن نبأه بعد حين ‏"‏ وينبغي أن ينشد في هؤلاء عند كشف الغطاء‏:‏ أحسنت ظنك بالأيام إذ حسنت ولم تخف سوء ما يأتي به القدر وسالمتك الليالي فاغتررت بها وعند صفو الليالي يحدث الكدر واعلم يقيناً أن كل من فارق الإيمان الساذج بالله وكتبه وخاض في البحث فقد تعرض لهذا الخطر ومثاله مثال من انكسرت سفينته وهو في ملتطم الأمواج يرميه موج إلى موج فربما يتفق أن يلقيه إلى الساحل وذلك بعيد والهلاك عليه أغلب وكل نازل على عقيدة تلقفها من الباحثين ببضاعة عقولهم إما مع الأدلة التي حرروها في تعصباتهم أو دون الأدلة فإن كان شاكاً فيه فهو فاسد الدين وإن كان واثقاً فهو آمن من مكر الله مغتر بعقله الناقص وكل خائض في البحث فلا ينفك عن هاتين الحالتين إلا إذا جاوز حدود المعقول إلى نور المكاشفة الذي هو مشرق في عالم الولاية والنبوة وذلك هو الكبريت الأحمر وإني يتيسر وإنما يسلم عن هذا الخطر البله من العوام أو الذين شغلهم خوف النار بطاعة الله فلم يخوضوا في هذا الفضول فهذا أحد الأسباب المخطرة في سوء الخاتمة‏.‏

وأما السبب الثاني‏:‏ فهو ضعف الإيمان في الأصل ثم استيلاء حب الدنيا على القلب ومهما ضعف الإيمان ضعف حب الله تعالى وقوي حب الدنيا فيصير بحيث لا يقي في القلب موضع لحب الله تعالى إلا من حيث حديث النفس ولا يظهر له أثر في مخالفة النفس والعدول عن طريق الشيطان فيورث ذلك الانهماك في إتباع الشهوات حتى يظلم القلب ويقسو ويسود وتتراكم ظلمة النفوس على القلب فلا يزال يطفئ ما فيه من نور الإيمان على ضعفه حتى يصير طبعاً وريناً فإذا جاءت سكرات الموت ازداد ذلك الحب أعني حب الله ضعفاً لما يبدو من استشعار فراق الدنيا وهي المحبوب الغالب على القلب فيتألم القلب باستشعار فراق الدنيا ويرى ذلك من الله فيختلج ضميره بإنكار ما قدر عليه من الموت وكراهة ذلك‏.‏

من حيث إنه من الله فيخشى أن يثور في باطنه بغض الله تعالى بدل الحب كما أن الذي يحب ولده حباً ضعيفاً إذا أخذ ولده أمواله التي هي أحب إليه من ولده وأحرقها انقلب ذلك الحب الضعيف بغضاً فإن اتفق زهوق روحه في تلك اللحظة التي خطرت فيها هذه الخطرة فقد ختم له بالسوء وهلك هلاكاً مؤبداً والسبب الذي يفضي إلى مثل هذه الخاتمة هو غلبة حب الدنيا والركون إليها والفرح بأسبابها مع ضعف الإيمان الموجب لضعف حب الله تعالى فمن وجد في قلبه حب الله أغلب من حب الدنيا وإن كان يحب الدنيا أيضاً فهو أبعد عن هذا الخطر وحب الدنيا رأس كل خطيئة وهو الداء العضال وقد عم أصناف الخلق وذلك كله لقلة المعرفة بالله تعالى إذ لا يحبه إلا من عرفه ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏"‏ قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره ‏"‏ فإذن كل من فارقته روحه في حالة خطرة الإنكار على الله تعالى بباله وظهر بغض فعل الله بقلبه في تفريقه بينه وبين أهله وماله وسائر محابه فيكون موته قدوماً على ما أبغضه وفراقاً لما أحبه فيقدم على الله قدوم العبد المبغض الآبق إذا قدم به على مولاه قهراً فلا يخفى ما يستحقه من الخزي والنكال وأما الذي يتوفى على الحب فإنه يقدم على الله تعالى قدوم العبد المحسن المشتاق إلى مولاه الذي تحمل مشاق الأعمال ووعثاء الأسفار طمعاً في لقائه فلا يخفى ما يلقاه من الفرح والسرور بمجرد القدوم فضلاً عما يستحقه من لطائف الإكرام وبدائع الإنعام‏.‏

وأما الخاتمة الثانية التي هي دون الأولى وليست مقتضية للخلود في النار فلها أيضاً سببان‏:‏ أحدهما كثرة المعاصي وإن قوي الإيمان والآخر ضعف الإيمان وإن قلت المعاصي وذلك لأن مقارفة المعاصي سببها غلبة الشهوات ورسوخها في القلب بكثرة الإلف والعادة وجميع ما ألفه الإنسان في عمره يعود ذكره إلى قلبه عند موته فإن كان ميله الأكثر إلى الطاعات كان أكثر ما يحضره ذكر طاعة الله وإن كان ميله الأكثر إلى المعاصي غلب ذكرها على قلبه عن الموت فربما تقبض روحه عند غلبة شهوة من شهوات الدنيا ومعصية من المعاصي فيتقيد بها قلبه ويصير محجوباً عن الله تعالى فالذي لا يقارف الذنب إلا الفينة بعد الفينة فهو أبعد عن هذا الخطر والذي لم يقارف ذنباً أصلاً فهو بعيد جداً عن هذا الخطر والذي غلبت عليه المعاصي وكانت أكثر من طاعاته وقلبه بها أفرح منه بالطاعات فهذا الخطر عظيم في حقه جداً ونعرف هذا بمثال‏:‏ وهو أنه لا يخفى عليك أن الإنسان يرى في منامه جملة من الأحوال التي عهدها طول عمره حتى إنه لا يرى إلا ما يماثل مشاهدته في اليقظة وحتى إن المراهق الذي يحتلم لا يرى صورة الوقاع إذا لم يكن قد واقع في اليقظة ولو بقي كذلك مدة لما رأى عند الاحتلام صورة الوقاع ثم لا يخفى أن الذي قضى عمره في الفقه يرى من الأحوال المتعلقة بالعلم والعلماء أكثر مما يراه التاجر الذي قضى عمره في التجارة والتاجر يرى من الأحوال المتعلقة بالتجارة وأسبابها أكثر مما يراه الطبيب والفقيه لأنه إنما يظهر في حال النوم ما حصل له مناسبة مع القلب بطول الإلف أو بسبب آخر من الأسباب والموت شبيه النوم ولكنه فوقه ولكن سكرات الموت وما يتقدمه من الغشية قريب من النوم فيقتضي ذلك تذكر المألوف وعوده إلى القلب وأحد الأسباب المرجحة لحصول ذكره في القلب طول الإلف فطول الإلف بالمعاصي والطاعات أيضاً مرجح وكذلك تخالف أيضاً منامات الصالحين منامات الفساق فتكون غلبة الإلف سبب لأن تتثمل صورة فاحشة في قلبه وتميل إليها نفسه فربما تقبض عليها روحه فيكون ذلك سبب سوء خاتمته وإن كان أصل الإيمان باقياً بحيث يرجى له الخلاص منها وكما أن ما يخطر في اليقظة إنما يخطر بسبب خاص يعلمه الله تعالى فكذلك آحاد المنامات لها أسباب عند الله تعالى نعرف بعضها ولا نعرف بعضها كما أنا نعلم أن الخاطر ينتقل من الشيء إلى ما يناسبه إما بالمشابهة وإما بالمضادة وإما بالمقارنة بان يكون قد ورد على الحس منه‏.‏

أما بالمشابهة فبأن ينظر إلى جميل فيتذكر جميلاً آخر وأما بالمضادة فبأن ينظر إلى جميل فيتذكر قبيحاً ويتأمل في شدة التفاوت بينهما وأما بالمقارنة فبأن ينظر إلى فرس قد رآه من قبل مع إنسان فيتذكر ذلك الإنسان وقد ينتقل الخاطر من شيء إلى شيء ولا يدري وجه مناسبته له وإنما يكون ذلك بواسطة وواسطتين مثل أن ينتقل من شيء ثان ومنه إلى شيء ثالث ثم ينسى الثاني ولا يكون بين الثالث والأول مناسبة ولكن يكون بينه وبين الثاني مناسبة وبين الثاني والأول مناسبة فكذلك لانتقالات الخواطر في المنامات أسباب من هذا الجنس وكذلك عند سكرات الموت فعلى هذا - والعلم عند الله - من كانت الخياطة أكثر أشغاله فإنك تراه يومئ إلى رأسه كأنه يأخذ إبرته ليخيط بها ويبل إصبعه التي لها عادة بالكستبان ويأخذ الإزار من فوقه ويقدره ويشبره كأنه يتعاطى تفصيله ثم يمد يده إلى المقراض ومن أراد أن يكف خاطره عن الانتقال عن المعاصي والشهوات فلا طريق له إلا المجاهدة طول العمر في فطامه نفسه عنها قمع الشهوات عن القلب فهذا هو القدر الذي يدخل تحت الاختيار ويكون طول المواظبة على الخير وتخلية الفكر عن الشر عدة وذخيرة لحالة سكرات الموت فإنه يموت المرء على ما عاش عليه ويحشر على ما مات عليه ولذلك نقل عن بقال أنه كان يلقن عند الموت كلمتي الشهادة فيقول‏:‏ خمسة ستة أربع فكان مشغول النفس بالحساب الذي طال إلفه له قبل الموت وقال بعض العارفين من السلف‏:‏ العرش جوهرة تتلألأ نوراً‏.‏

فلا يكون العبد على حال إلا انطبع مثاله في العرش على الصورة التي كان عليها فإذا كان في سكرات الموت كشف له صورته من العرش فربما يرى نفسه على صورة معصية وكذلك يكشف له يوم القيامة فيرى أحوال نفسه فيأخذه من الحياء والخوف ما يجل عن الوصف وما ذكره صحيح وسبب الرؤيا الصادقة قريب من ذلك فإن النائم يدرك ما يكون في المستقبل من مطالعة اللوح المحفوظ وهي جزء من أجزاء النبوة فإذا رجع سوء الخاتمة إلى أحوال القلب واختلاج الخواطر ومقلب القلوب هو الله والاتفاقات المقتضية لسوء الخواطر غير داخلة تحت الاختيار دخولاً كلياً وإن كان لطول الإلف فيه تأثير فبهذا عظم خوف العارفين من سوء الخاتمة لأنه لو أراد الإنسان أن لا يرى في المنام إلا أحوال الصالحين وأحوال الطاعات والعبادات عسر عليه ذلك وإن كانت كثرة الصلاح والمواظبة عليه مما يؤثر فيه ولكن اضطرابات الخيال لا تدخل بالكلية تحت الضبط وإن كان الغالب مناسبة ما يظهر في النوم لما غلب في اليقظة حتى سمعت الشيخ أبا علي الفارمذي رحمة الله عليه يصف لي وجوب حسن أدب المريد لشيخه وأن لا يكون في قلبه إنكار لكل ما يقوله ولا في لسانه مجادلة عليه فقال‏:‏ حكيت لشيخي أبي القاسم الكرماني مناماً لي وقلت‏:‏ رأيتك قلت لي كذا فقلت‏:‏ لم ذاك قال‏:‏ فهجرني شهراً ولم يكلمني وقال‏:‏ لولا أنه كان في باطنك تجويز المطالبة وإنكار ما أقوله لك لما جرى ذلك على لسانك في النوم‏.‏

وهو كما قال إذ قلما يرى الإنسان في منامه خلاف ما يغلب في اليقظة على قلبه فهذا هو القدر الذي نسبح بذكره في علم المعاملة من أسرار أمر الخاتمة وما وراء ذلك في علم المكاشفة وقد ظهرت لك بهذا أن الأمن من سوء الخاتمة بأن ترى الأشياء كما هي عليه من غير جهل وتزجي جميع العمر في طاعة الله من غير معصية فإن كنت تعلم أن ذلك محال أو عسير فلا بد وأن يغلب عليك من الخوف ما غلب على العارفين حتى يطول بسببه بكاؤك ونياحتك ويدوم به حزنك وقلقك كما سنحكيه من أحوال الأنبياء والسلف الصالحين ليكون ذلك أحد الأسباب المهيجة لنار الخوف من قلبك وقد عرفت بهذا أن أعمال العمر كلها ضائعة إن لم يسلم في النفس الأخير الذي عليه خروج الروح وإن سلامته مع اضطراب أمواج الخواطر مشكلة جداً ولذلك كان مطرف بن عبد الله يقول‏:‏ إني لا أعجب ممن هلك كيف هلك ولكني أعجب ممن نجا كيف نجا‏!‏‏.‏

ولذلك قال حامد اللفاف‏:‏ إذا صعدت الملائكة بروح العبد المؤمن وقد مات على الخير والإسلام تعجبت الملائكة منه وقالوا‏:‏ كيف نجا هذا من دنيا فسد فيها خيارنا‏.‏

وكان الثوري يوماً يبكي فقيل له‏:‏ علام تبكي فقال‏:‏ بكينا على الذنوب زماناً فالآن نبكي على الإسلام‏.‏

وبالجملة من وقعت سفينته في لجة البحر وهجمت عليه الرياح العاصفة واضطربت الأمواج كانت النجاة في حقه أبعد من الهلاك وقلب المؤمن أشد اضطراباً من السفينة وأمواج الخواطر أعظم التطاماً من أمواج البحر وإنما المخوف عند الموت خاطر سوء يخطر فقط وهو الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة خمسين سنة حتى لا يبقى بينه وبين الجنة إلا فواق ناقة فيختم له بما سبق به الكتاب ‏"‏ ولا يتسع فواق الناقة لأعمال توجب الشقاوة بل هي الخواطر التي تضطرب وتخطر خطور البرق الخاطف‏.‏

وقال سهل‏:‏ رأيت كأني أدخلت الجنة فرأيت ثلثمائة نبي فسألتهم‏:‏ ما أخوف ما كنتم تخافون في الدنيا قالوا‏:‏ سوء الخاتمة‏.‏

ولأجل هذا الخطر العظيم كانت الشهادة مغبوطاً عليها وكان موت الفجأة مكروهاً أما الموت فجأة فلأنه ربما يتفق عند غلبة خاطر سوء واستيلائه على القلب لا يخلو عن أمثاله إلا أن يدفع بالكراهة أو بنور المعرفة‏.‏

وأما الشهادة فلأنها عبارة عن قبض الروح في حالة لم يبق في القلب سوى حب الله تعالى وخرج حب الدنيا والأهل والمال والولد وجميع الشهوات عن القلب إذ لا يهجم على صف القتال موطناً نفسه على الموت إلا حباً لله وطلباً لمرضاته وبائعاً دنياه بآخرته وراضياً بالبيع الذي بايعه الله به إذ قال تعالى‏:‏ ‏"‏ إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة ‏"‏ والبائع راغب عن المبيع لا محالة ومخرج حبه عن القلب ومجرد حب العوض المطلوب في قلبه ومثل هذه الحالة قد يغلب على القلب في بعض الأحوال ولكن لا يتفق زهوق الروح فيها فصف القتال سبب لزهوق الروح على مثل هذه الحالة هذا فيمن ليس يقصد الغلبة والغنيمة وحسن الصيت بالشجاعة فإن من هذا حاله وأن قتل في المعركة فهو بعيد عن مثل هذه الرتبة كما دلت عليه الأخبار‏.‏

وإذ بان ذلك معنى سوء الخاتمة وما هو مخوف فيها فاشتغل بالاستعداد لها فواظب على ذكر الله تعالى وأخرج من قلبك حب الدنيا واحرس عن فعل المعاصي جوارحك وعن الفكر فيها قلبك واحترز عن مشاهدة المعاصي ومشاهدة أهلها جهدك فإن ذلك أيضاً يؤثر في قلبك ويصرف إليه فكرك وخواطرك وإياك أن تسوف وتقول‏:‏ سأستعد لها إذا جاءت الخاتمة فإن كل نفس من أنفاسك خاتمتك إذ يمكن أن تختطف فيه روحك فراقب قلبك في كل تطريفة وإياك أن تهمله لحظة فلعل تلك اللحظة خاتمتك إذ يمكن أن تختطف فيها روحك هذا ما دمت في يقظتك وأما إذا نمت فإياك أن تنام إلا على طهارة الظاهر والباطن وأن يغلبك النوم إلا بعد غلبة ذكر الله على قلبك لست أقول على لسانك فإن حركة اللسان بمجردها ضعيفة الأثر واعلم قطعاً أنه لا يغلب عند النوم على قلبك إلا ما كان النوم غالباً عليه وأنه لا يغلب في النوم إلا ما كان غالباً قبل النوم ولا ينبعث عن نومك إلا ما غلب على قلبك في نومك والموت شبيه النوم واليقظة فكما لا ينام العبد إلا على ما غلب عليه في يقظته ولا يستيقظ إلا على ما كان عليه في نومه فكذلك لا يموت المرء إلا على ما عاش عليه ولا يحشر إلا على ما مات عليه وتحقق قطعاً ويقيناً أن الموت والبعث حالتان من أحوالك كما أن النوم واليقظة حالتان من أحوالك وآمن بهذا تصديقاً باعتقاد القلب إن لم تكن أهلاً لمشاهدة ذلك بعين اليقين ونور البصيرة وراقب أنفاسك ولحظاتك وإياك أن تغفل عن الله طرفة عين فإنك إذا فعلت ذلك كله كنت مع ذلك في خطر عظيم فكيف إذا لم تفعل‏.‏

والناس كلهم هلكى إلا العالمون والعالمون كلهم هلكى إلا العاملون والعاملون كلهم هلكى إلا المخلصون والمخلصون على خطر عظيم‏.‏

واعلم أن ذلك لا يتيسر لك ما تقنع من الدنيا بقدر ضرورتك وضرورتك مطعم وملبس ومسكن والباقي كله فضول والضرورة من المطعم ما يقيم صلبك ويسد رمقك فينبغي أن يكون تناولك تناول مضطر كاره له ولا تكون رغبتك فيه أكثر من رغبتك في قضاء حاجتك إذ لا فرق بين إدخال الطعام في البطن وإخراجه فهما ضرورتان في الجبلة وكما لا يكون قضاء الحاجة من همتك التي يشتغل بها قلبك فلا ينبغي أن يكون تناول الطعام من همتك واعلم أنه إن كان همتك ما يدخل بطنك فقيمتك ما يخرج من بطنك وإذا لم يكن قصدك من الطعام إلا التقوى على عبادة الله تعالى كقصدك من قضاء حاجتك فعلامة ذلك تظهر من ثلاثة أمور‏:‏ من مأكولك في وقته وقدره وجنسه أما الوقت فأقله أن يكتفي في اليوم والليلة بمرة واحدة فيواظب على الصوم وأما قدره فبأن لا يزيد على ثلث البطن وأما جنسه فأن لا يطلب لذائذ الأطعمة بل يقنع بما يتفق فإن قدرت على هذه الثلاث وسقطت عنك مؤونة الشهوات واللذائذ قدرت بعد ذلك على ترك الشبهات وأمكنك أن لا تأكلإلا من حله فإن الحلال يعز ولا يفي بجميع الشهوات وأما ملبسك فليكن غرضك منه دفع الحر والبرد وستر العورة فكل ما دفع البرد عن رأسك ولو قلنسوة يدانق فطلبك غيره فضول منك يضيع فيه زمانك ويلزمك الشغل الدائم والعناء القائم في تحصيله بالكسب مرة والطمع أخرى من الحرام والشبهة وقس بهذا ما تدفع به الحر والبرد عن بدنك فكل ما حصل مقصود اللباس إن لم تكنف به في خساسة قدره وجنسه لم يكن لك موقف ومرد بعده‏.‏

بل كنت ممن لا يملأ بطنه إلا التراب وكذلك المسكن إن اكتفيت بمقصوده كفتك السماء سقفاً والأرض مستقراً فإن غلبك حر أو برد فعليك بالمساجد فإن طلبت مسكناً خاصاً طال عليك وانصرف إليه أكثر عمرك وعمرك هو بضاعتك ثم إن تيسر لك فقصدت من الحائط سوى كونه حائلاً بينك وبين الأبصار ومن السقف سوى كونه دافعاً للأمطار فأخذت ترفع الخيطان وتزين السقوف فقد تورطت في مهواة يبعد رقيك منها وهكذا جميع ضرورات أمورك إن اقتصرت عليها تفرغت لله وقدرت على التزود لآخرتك والاستعداد لخاتمتك وإن جاوزت حد الضرورة إلى أودية الأماني تشعبت همومك ولم يبال الله في أي واد أهلكك فاقبل هذه النصيحة ممن هو أحوج إلى النصيحة منك‏.‏

واعلم أن متسع التدبير والتزود والاحتياط هذا العمر القصير فإذا دفعته يوماً بيوم في تسويفك أو غفلتك اختطفت فجأة في غير وقت إرادتك ولم تفارقك حسرتك وندامتك فإن كنت لا تقدر على ملازمة ما أرشدت إليه بضعف خوفك إذا لم يكن فيما وصفناه من أمر الخاتمة كفاية في تخويفك فإنا سنورد عليك من أحوال الخائفين ما نرجو أن يزيل بعض القساوة عن قلبك فإنك تتحقق أن عقل الأنبياء والأولياء والعلماء وعملهم ومكانهم عند الله تعالى لم يكن دون عقلك وعملك ومكانك فتأمل مع كلال بصيرتك وعمش عين قلبك في أحوالهم‏:‏ لم اشتد بهم الخوف وطال بهم الحزن والبكاء حتى كان بعضهم يصعق وبعضهم يدهش وبعضهم يسقط مغشياً عليه وبعضهم يخر ميتاً إلى الأرض ولا غرو إن كان ذلك لا يؤثر في قلبك قلوب الغافلين مثل الحجارة أو أشد قسوة ‏"‏ وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله وما الله بغافل عما تعملون ‏"‏‏.‏

الشطر الثاني في الخوف

بيان أحوال الأنبياء والملائكة في الخوف

روت عائشة رضي الله عنها‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا تغير الهواء وهبت ريح عاصفة يتغير وجهه فيقوم ويتردد في الحجرة ويدخل ويخرج كل ذلك خوفاً من عذاب الله‏.‏

وقرأ صلى الله عليه وسلم آية في سورة الواقعة فصعق‏.‏

وقال تعالى ‏"‏ وخر موسى صعقاً ‏"‏‏.‏

وروي أنه عليه السلام كان إذا دخل في الصلاة يسمع لصدره أزيزاً كأزيز المرجل‏.‏

وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ ما جاءني جبريل قط إلا وهو يرعد فرقاً من الجبار ‏"‏‏.‏

وقيل‏:‏ لما ظهر على إبليس ما ظهر طفق جبريل وميكائيل عليهما السلام يبكيان فأوحى الله إليهما‏:‏ ما لكما تبكيان كل هذا البكاء فقالا‏:‏ يا رب ما نأمن مكرك فقال الله تعالى‏:‏ هكذا كونا لا تأمنا مكري‏.‏

وعن محمد بن المنكدر قال‏:‏ لما خلقت النار طارت أفئدة الملائكة من أماكنها فلما خلق بنو آدم عادت‏.‏

وعن أنس أنه عليه السلام سأل جبريل‏:‏ ‏"‏ ما لي لا أرى ميكائيل يضحك ‏"‏ فقال جبريل‏:‏ ما ضحك ميكائيل منذ خلقت النار ‏"‏‏.‏

ويقال‏:‏ إن لله تعالى ملائكة لم يضحك أحد منهم منذ خلقت النار مخافة أن يغضب الله عليهم فيعذبهم بها‏.‏

وقال ابن عمر رضي الله عنهما‏:‏ خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دخل

بعض حيطان الأنصار فجعل يلتقط من التمر ويأكل فقال‏:‏ يا ابن عمر مالك لا تأكل فقلت‏:‏ يا رسول الله لا أشتهيه فقال‏:‏ ‏"‏ لكني أشتهيه وهذا صبح رابعة لم أذق طعاماً ولم أجده ولو سألت ربي لأعطاني ملك قيصر وكسرى فكيف بك يا ابن عمر إذا بقيت في قوم يخبئون رزق سنتهم ويضعف اليقين في قلوبهم ‏"‏ قال فوالله ما برحنا ولا قمنا حتى نزلت ‏"‏ وكأين من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها وإياكم وهو السميع العليم ‏"‏ قال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ إن الله لم يأمركم بكنز المال ولا بإتباع الشهوات من كنز دنانير يريد بها حياة فانية فإن الحياة بيد الله ألا وإني لا أكنز ديناراً ولا درهماً ولا أخبأ رزقاً لغد ‏"‏‏.‏

وقال أبو الدرداء‏:‏ كان يسمع أزيز قلب إبراهيم خليل الرحمن صلى الله عليه وسلم إذا قام في الصلاة من مسيرة ميل خوفاً من ربه‏.‏

وقال مجاهد‏:‏ بكى داود عليه السلام أربعين يوماً ساجداً لا يرفع رأسه حتى نبت المرعى من دموعه وحتى غطى رأسه فنودي‏:‏ يا داود أجائع أنت فتطعم أم ظمآن فتسقى أم عار فتكسى فنحب نحبة هاج العود فاحترق من حر جوفه ثم أنزل الله تعالى عليه التوبة والمغفرة فقال‏:‏ يا رب اجعل خطيئتي في كفي فصارت خطيئته في كفه مكتوبة فكان لا يبسط لطعام ولا لشراب ولا لغيره إلا رآها فأبكته قال‏:‏ وكان يؤتى بالقدح ثلثاه فإذا تناوله أبصر خطيئته فما يضعه على شفته حتى يفيض القدح من دموعه‏.‏

ويروى عنه عليه السلام أنه ما رفع رأسه إلى السماء حتى مات حياء من الله عز وجل وكان يقول في مناجاته‏:‏ إلهي إذا ذكرت خطيئتي ضاقت علي الأرض برحبها وإذا ذكرت رحمتك ارتدت إلي روحي سبحانك إلهي أتيت أطباء عبادك ليداووا خطيئتي فكلهم عليك يدلني فبؤساً للقانطين من رحمتك‏.‏

وقال الفضيل‏:‏ بلغني أن داود عليه السلام ذكر ذنبه يوم فوثب صارخاً واضعاً يده على رأسه حتى لحق بالجبال فاجتمعت إليه السباع فقال‏:‏ ارجعوا لا أريدكم إنما أريد كل بكاء على خطيئته فلا يستقبلني إلا البكاء ومن لم يكن ذا خطيئة فما يصنع بداود الخطاء‏.‏

وكان يعاتب في كثرة البكاء فيقول‏:‏ دعوني أبكي قبل خروج يوم البكاء قبل تخريق العظام واشتغال الحشا وقبل أن يؤمر بي ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون‏.‏

وقال عبد العزيز بن عمر‏:‏ لما أصاب داود الخطيئة نقص صوته فقال‏:‏ إلهي بح صوتي في صفاء أصوات الصديقين‏.‏

وروي أنه عليه السلام لما طال بكاؤه ولم ينفعه ذلك ضاق ذرعه واشتد غمه فقال‏:‏ يا رب أما ترحم بكائي فأوحى الله تعالى إليه‏:‏ يا داود نسيت ذنبك وذكرت بكاءك فقال‏:‏ إلهي وسيدي كيف أنسى ذنبي وكنت إذا تلوت الزبور كف الماء الجاري عن جريه وسكن هبوب الريح وأظلني الطير على رأسي وأنست الوحوش إلى محرابي إلهي وسيدي فما هذه الوحشة التي بيني وبينك فأوحى الله تعالى إليه‏:‏ يا داود ذلك أنس الطاعة وهذه وحشة المعصية يا داود آدم خلق من خلقي خلقته بيدي ونفخت فيه من روحي وأسجدت له ملائكتي وألبسته ثوب كرامتي وتوجته بتاج وقاري وشكا لي الوحدة فزوجته حواء أمتي وأسكنته جنتي ثم إنه عصاني فطردته عن جواري عرياناً ذليلاً يا داود اسمع مني والحق أقول‏:‏ أطعتنا فأطعناك وسألتنا فأعطيناك وعصيتنا فأمهلناك وإن عدت إلينا على ما كان منك قبلناك‏.‏

وقال يحيى بن أبي كثير‏:‏ بلغنا أن داود عليه السلام كان إذا أراد أن ينوح مكث قبل ذلك سبعاً لا يأكل طعاماً ولا يشرب الشراب ولا يقرب النساء فإذا كان قبل ذلك بيوم أخرج له المنبر إلى البرية فأمر سليمان أن ينادي بصوت يستقري البلاد وما حولها من الغياض والآكام والجبال والبراري والصوامع والبيع فينادي فيها‏:‏ إلا من أراد أن يسمع نوح داود على نفسه فليأت قال‏:‏ فتأتي الوحوش من البراري والآكام وتأتي السباع من الغياض وتأتي الهوام من الجبال وتأتي الطير من الأوكار وتأتي العذارى من خدورهن وتجتمع الناس لذلك اليوم ويأتي داود حتى يرقى المنبر ويحيط به بنو إسرائيل وكل صنف على حدته محيطون به وسليمان عليه السلام قائم على رأسه فيأخذ في الثناء على ربه فيضجون بالبكاء والصراخ ثم يأخذ في ذكر الجنة والنار فتموت الهوام وطائفة من الوحوش والسباع والناس ثم يأخذ في أهوال القيامة وفي النياحة على نفسه فيموت من كل نوع طائفة فإذا رأى سليمان كثرة الموتى قال‏:‏ يا أبتاه قد مزقت المستمعين كل ممزق وماتت طوائف من بني إسرائيل ومن الوحوش والهوام فيأخذ في الدعاء فبينا هو كذلك إذ ناداه بعض بني إسرائيل‏:‏ يا داود عجلت بطلب الجزاء على ربك‏!‏ قال فيخر داود مغشياً عليه فإذا نظر سليمان إلى ما أصابه أتى بسرير فحمله عليه ثم أمر منادياً ينادي ألا من كان له مع داود حميم أو قريب فليأت بسرير فليحمله فإن الذين كانوا معه قد قتلهم ذكر الجنة والنار فكانت المرأة تأتي بالسرير وتحمل قريبها وتقلو‏:‏ يا من قتله ذكر النار يا من قتله خوف الله ثم إذا أفاق داود قام ووضع يده على رأسه ودخل بيت عبادته وأغلق بابه ويقول‏:‏ يا إله

داود أغضبان أنت على داود ولا يزال يناجي ربه فيأتي سليمان ويقعد على الباب ويستأذن ثم يدخل ومعه قرص من شعير فيقول‏:‏ يا أبتاه تقو بهذا على ما تريد فيأكل من ذلك القرص ما شاء الله ثم يخرج إلى بني إسرائيل فيكون بينهم‏.‏

وقال يزيد الرقاشي‏:‏ خرج داود ذات يوم بالناس يعظهم ويخوفهم فخرج في أربعين ألفاً فمات منهم ثلاثون ألفاً وما رجع إلا في عشرة آلاف قال‏:‏ وكان له جاريتان حتى إذا جاءه الخوف وسقط فاضطرب قعدتا على صدره وعلى رجليه مخافة أن تتفرق أعضاؤه ومفاصله فيموت‏.‏

وقال ابن عمر رضي الله عنهما‏:‏ دخل يحيى بن زكريا عليهما السلام بيت المقدس وهو ابن ثمان

حجج فنظر إلى عبادهم قد لبسوا مدارع الشعر والصوف ونظر إلى مجتهديهم قد خرقوا التراقي وسلكوا فيها السلاسل وشدوا أنفسهم إلى أطراف بيت المقدس فهاله ذلك فرجع إلى أبويه فمر بصبيان يلعبون فقالوا له‏:‏ يا يحيى هلم بنا لنلعب فقال‏:‏ إني لم أخلق للعب قال‏:‏ فأتى أبويه فسألهما أن يدرعاه الشعر ففعلا فرجع إلى بيت المقدس وكان يخدمه نهاراً ويصبح فيه ليلاً حتى أتت عليه خمس عشرة سنة فخرج ولزم أطواد الأرض وغيران الشعاب فخرج أبواه في طلبه فأدركاه على بحيرة الأردن وقد أنقعي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏"‏ عبس وتولى أن جاءه العمى وما يدريك لعله يزكى أو يذكر فتنفعه الذكرى ‏"‏ يعني ابن مكتوم ‏"‏ أما من استغنى فأنت له تصدى ‏"‏ يعني هذا الشريف‏.‏

وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏ يؤتى بالعبد يوم القيامة فيعتذر الله تعالى إليه كما يعتذر الرجل للرجل في الدنيا فيقول‏:‏ وعزتي وجلالي ما زويت الدنيا عنك لهوانك علي ولكن لما أعددت لك من الكرامة والفضيلة اخرج يا عبدي إلى هذه الصفوف فمن أطعمك فيّ أو كساك فيّ يريد بذلك وجهي فخذ بيده فهو لك والناس يومئذ قد ألجمهم العرق فيتخلل الصفوف وينظر من فعل ذلك به فيأخذ بيده ويدخله الجنة ‏"‏‏.‏

وقال عليه السلام‏:‏ ‏"‏ أكثروا معرفة الفقراء واتخذوا عندهم الأيادي فإن لهم دولة ‏"‏ قالوا‏:‏ يا رسول الله وما دولتهم قال‏:‏ ‏"‏ إذا كان يوم القيامة قيل لهم انظروا فمن أطعمكم كسرة أو سقاكم شربة أو كساكم ثوباً فخذوا بيده ثم امضوا به إلى الجنة ‏"‏‏.‏

وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ دخلت الجنة فسمعت حركة أمامي فنظرت فإذا بلال ونظرت في أعلاها فإذا فقراء أمتي وأولادهم ونظرت في أسفلها فإذا فيه من الأغنياء والنساء قليل فقلت‏:‏ يا رب ما شأنهم قال‏:‏ أما النساء فأضر بهن الأحمران الذهب والحرير وأما الأغنياء فاشتغلوا بطول الحساب وتفقدت أصحابي فلم أر عبد الرحمن بن عوف ثم جاءني بعد ذلك وهو يبكي فقلت‏:‏ ما خلفك عني قال‏:‏ يا رسول الله ما وصلت إليك حتى لقيت المشيبات وظننت أني لا أراك فقلت‏:‏ ولم قال‏:‏ كنت أحاسب بمالي ‏"‏‏.‏

فانظر إلى هذا وعبد الرحمن صاحب السابقة العظيمة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو من العشرة المخصوصين بأنهم من أهل الجنة وهو من الأغنياء الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ إلا من قال بالمال هكذا وهكذا ‏"‏ ومع هذا فقد استضر بالغنى إلى هذا الحد‏.‏

ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على رجل فقير فلم ير له شيئاً فقال‏:‏ لو قسم نور هذا على أهل الأرض لوسعهم ‏"‏‏.‏

وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ ألا أخبركم بملوك أهل الجنة ‏"‏ قالوا‏:‏ بلى يا رسول الله قال‏:‏ ‏"‏ كل ضعيف مستضعف أغبر أشعث ذي طمرين لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره ‏"‏‏.‏

وقال عمران بن حصين‏:‏ كانت لي من رسول الله صلى الله عليه وسلم منزلة وجاه فقال‏:‏ ‏"‏ يا عمران إن لك عندنا منزلة وجاهاً فهل لك في عيادة فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت‏:‏ نعم بأبي أنت وأمي يا رسول الله فقام وقمت معه حتى وقف بباب فاطمة فقرع الباب وقال‏:‏ ‏"‏ السلام عليكم أأدخل ‏"‏ فقالت‏:‏ ادخل يا رسول الله‏.‏

قال‏:‏ ‏"‏ أنا ومن معي ‏"‏ قالت‏:‏ ومن معك يا رسول الله قال‏:‏ ‏"‏ عمران ‏"‏ فقالت فاطمة‏:‏ والذي بعثك بالحق نبياً ما علي إلا عباءة‏.‏

قال‏:‏ ‏"‏ اصنعي بها هكذا وهكذا ‏"‏ وأشار بيده فقالت‏:‏ هذا جسدي قد واريته فكيف برأسي فألقى إليها ملاءة كانت عليه خلقة فقال‏:‏ ‏"‏ شدي على رأسك ‏"‏ ثم أذنت له فدخل فقال‏:‏ ‏"‏ السلام عليك يا ابنتاه كيف أصبحت ‏"‏ قالت‏:‏ أصبحت والله وجعة وزادني وجعاً على ما بي أني لست أقدر على طعام آكله فقد أضر بي الجوع فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال‏:‏ ‏"‏ لا تجزعي يا ابنتاه فوالله ما ذقت طعاماً منذ ثلاث وإني لأكرم على الله منك ولو سألت ربي لأطعمني ولكني آثرت الآخرة على الدنيا ‏"‏ ثم ضرب بيده على منكبها وقال لها‏:‏ ‏"‏ أبشري فوالله إنك لسيدة نساء أهل الجنة ‏"‏ قال‏:‏ فأين آسية امرأة فرعون ومريم بنت عمران قال‏:‏ ‏"‏ آسية سيدة نساء عالمها ومريم سيدة نساء عالمها وأنت سيدة نساء عالمك إنكن في بيوت من قصب لا أذى فيها ولا صخب ولا نصب ‏"‏ ثم قال لها‏:‏ ‏"‏ اقنعي بابن عمك فوالله لقد زوجتك سيداً في الدنيا وسيداً في الآخرة ‏"‏‏.‏

وروي عن علي كرم الله وجهه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ إذا أبغض الناس فقراءهم وأظهروا عمارة الدنيا وتكالبوا على جمع الدراهم رماهم الله بأربع خصال‏:‏ بالقحط من الزمان والجور من السلطان والخيانة من ولاة الأحكام والشوكة من الأعداء ‏"‏‏.‏

وأما الآثار‏:‏ فقد قال أبو الدرداء رضي الله عنه‏:‏ ذو الدرهمين أشد حبساً - أو قال أشد حساباً - من ذي الدرهم‏.‏

وأرسل عمر رضي الله عنه إلى سعيد بن عامر بألف دينار فجاء حزيناً كئيباً فقالت امرأته‏:‏ أحدث أمر قال‏:‏ أشد من ذلك ثم قال‏:‏ أريني درعك الخلق فشقه وجعله صرراً وفرقه ثم قام يصلي ويبكي إلى الغداة ثم قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏ يدخل فقراء أمتي الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام حتى إن الرجل من الأغنياء يدخل في غمارهم فيؤخذ بيده فيستخرج ‏"‏‏.‏

وقال أبو هريرة‏:‏ ثلاثة يدخلون الجنة بغير حساب‏:‏ رجل يريد أن يغسل ثوبه فلم يكن له خلق يلبسه ورجل لم ينصب على مستوقد قدرين ورجل دعا بشرابه فلا يقال له أيها تريد‏.‏

وقيل‏:‏ جاء فقير إلى مجلس الثوري رحمه الله فقال له‏:‏ تخط لو كنت غنياً لما قربتك وكان الأغنياء من أصحابه يودون أنهم فقراء لكثرة تقريبه للفقراء وإعراضه عن الأغنياء‏.‏

وقال المؤمل‏:‏ ما رأيت الغني أذل منه في مجلس الثوري ولا رأيت الفقير أعز منه في مجلس الثوري رحمه الله‏.‏

وقال بعض الحكماء‏:‏ مسكين ابن آدم لو خاف من النار كما يخاف الفقر لنجا منهما جميعاً ولو رغب في الجنة كما يرغب في الغنى لفاز بهما جميعاً ولو خاف الله في الباطن كما يخاف خلقه في الظاهر لسعد في الدارين جميعاً‏.‏

وقال ابن عباس‏:‏ ملعون من أكرم بالغنى وأهان بالفقر‏.‏

وقال يحيى بن معاذ‏:‏ حبك للفقراء من أخلاق المرسلين وإيثارك مجالستهم من علامة الصالحين وفرارك من صحبتهم من علامة المنافقين‏.‏

وفي الأخبار عن الكتب السالفة‏:‏ أن لله تعالى أوحى إلى بعض أنبيائه عليهم السلام‏:‏ احذر أن أمقتك فتسقط من عيني فأصب عليك الدنيا صباً‏.‏

ولقد كانت عائشة رضي الله عنها تفرق مائة ألف درهم في يوم واحد يوجهها إليها معاوية وابن عامر وغيرهما وإن درعها لمرقوع وتقول لها الجارية‏:‏ لو اشتريت لك بدرهم لحماً تفطرين عليه‏!‏ وكانت صائمة فقالت‏:‏ لو ذكرتيني لفعلت وكان قد أوصاها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال‏:‏ ‏"‏ إن أردت اللحوق بي فعليك بعيش الفقراء وإياك ومجالسة الأغنياء ولا تنزعي درعك حتى ترقعيه ‏"‏‏.‏

وجاء رجل إلى إبراهيم بن أدهم بعشرة آلاف درهم فأبى عليه أن يقبلها فألح عليه الرجل فقال له إبراهيم‏:‏ أتريد أن أمحو اسمي من ديوان الفقراء بعشرة آلاف درهم لا أفعل ذلك أبداً - رضي الله عنه‏.‏